فصل: الخبر بولاده عنه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الخبر بولاده عنه

هنيئاً أبا الفضل الرضا وأبا زيد وأمنت من بغي يخاف ومن كيد بطالع يمن طال في السعد شأوه فما هو من عمرو الرجال ولا زيد وقيد بشكر الله أنعمه التي أوابدها تأبى سوى الشكر من قيد أهلاً بدري المكاتب وصدري المراتب وعتبى الزمن العاتب وبكر المشتري والكاتب ومرحباً بالطالع في أسعد المطالع والثاقب في أجلى المراقب وسهلاً بغني البشير وعزة الأهل والعشير وتاج الفخر الذي يقصر عنه كسرى وأردشير الآن اعتضدت الحلة الحضرمية بالفارس وأمن السارح في حمى الحارس وسعدت بالمنبر الكبير أفلاك التدوير من حلقات المدارس وقرت بالجنى الكريم عين الغارس واحتقرت أنظار الآبلي وأبحاث ابن الدارس وقيل للمشكلات‏:‏ طالما ألفت الخمرة وأمضيت على الأذهان الإمرة فتأهبي للغارة المبيحة لحماك وتحيزي إلى فئة البطل المستأثر برشف لماك‏.‏ولله من نصبة احتفى سفيها المشتري واحتفل وكفى سني تربيتها وكفل واختال عطارد في حلل الجذل لها ورفل واتضحت الحدود وتهللت الوجوه وتنافست المثلثات تؤمل الحظ وترجوه ونبه البيت على واجبه وأشار لحظ الشرف بحاجبه وأسرع نير النوبة في الأوبة قائماً في الاعتذار مقام التوبة واستأثر بالبروج المولدة بيت البنين وتخطت خطا القمر رأس الجوزهر وذنب التنين وساوق منها حكم الأصل حذوك النعل بالنعل تحويل السنين وحقق هذا المولود بين المواليد نسبة عمر الوالد فتجاوز درجة المئين واقترن بعاشره السعدان اقتران الجسد وثبت بدقيقة مركزه قلب الأسد وسرق من بيت أعدائه خرثي الغل والحسد ونظفت طرق التسيير كما نفعل بين يدي الساعة عند المسير وسقط الشيخ الهرم من الدرج في البير ودفع المقاتل إلى الوبال الكبير‏:‏ لم لا ينال العلا أو يعقد التاج والمشتري طالع والشمس هيلاج والسعد يركض في ميدانها مرحاً جذلان والفلك الدوار هملاج كأن به - والله يهديه - قد انتقل من مهد التنويم إلى النهج القويم ومن أريكة الذراع إلى تصريف اليراع ومن كتد الداية إلى مقام الهداية والغاية المختطفة البداية جعل الله وقايته عليه عوذة وقسم حسدته قسمة محرم اللحم بين منخنقة ونطيحة ومتردية وموقوذة وحفظ هلاله في البدار إلى تمه وبعد تمه وأقر به عين أبيه وأمه غير أني - والله يغفر لسيديبيد أني راكع في سبيل الشكر وساجد فأنا عاتب وواجد إذ كان ظني أن البريد بهذا الخبر إلي يعمل وأن إتحافي به لا يهمل فانعكست القضية ورابت الحال المرضية وفضلت الأمور الذاتية الأمور العرضية والحكم جازم وأحد الفرضين لازم إما عدم السوية ويعارضه اعتناء حبله مغار وعهدة سلم لم يدخلها جزية ولا صغار أو جهل بمقدار الهبة ويعارضه علم بمقدار الحقوق ورضى مناف للعقوق فوقع الأشكال وربما لطف عذر كان عليه الاتكال‏.‏وإذا لم يبشر مثلي بمنحة الله قبل تلك الذات السرية الخليقة بالنعم الحرية فمن الذي يبشر وعلى من يعرض بزها أو ينشر وهي التي واصلت التفقد وبهرجت المعاملة وأبت أن تنقد وأنست الغربة وجرحها غير مندمل ونفست الكربة وجنحها على الجوانح مشتمل فمتى فرض نسيان الحقوق لم ينلني فرض ولا شهد به علي سماء ولا أرض وإن قصر فيما يجب لسيدي عمل لم يقصر رجاء ولا أمل ولي في شرح حمده ناقة وجمل‏.‏ومنه جل وعلا نسأل أن يريه قرة العين في نفسه وماله وبنيه ويجعل أكبر عطايا الهيالج أصغر سنيه ويقلد عواتق الكواكب البابانية حمائل أمانيه‏.‏وإن تشوف سبيلي لحال وليه فخلوة طيبة ورحمة من جانب الله صيبة وبرق يشام فيقال‏:‏ حدث ما وراءك يا هشام‏.‏ولله در شيخنا إذ يقول‏:‏ لا بارك الله في إن لم أصرف النفس في الأهم وكثر الله في همومي إن كان غير الخلاص همي وإن أنعم سيدي بالإلماع بحالة وحال الولد المبارك فذلك من غرر إحسانه ومنزلته في لحظ لحظي بمنزلة إنسانه والسلام‏.‏العودة إلى المغرب الأقصى ولما كنت في الاعتمال في مشايعة السلطان عبد العزيز ملك المغرب كما ذكرت تفاصيله وأنا مقيم ببسكرة في جوار صاحبها أحمد بن يوسف بن مزنى وهو صاحب زمام رياح وأكثر عطائهم من السلطان مفترض عليه في جباية الزاب وهم يرجعون إليه في الكثير من أمورهم فلم أشعر إلا وقد حدثت المنافسة منه في استتباع العرب ووغر صدره وصدق في ظنونه وتوهماته وطاوع الوشاة فيما يوردون على سمعه من التقول والاختلاق وجاش صدره بذلك فكتب إلى ونزمار بن عريف ولي السلطان وصاحب شواره يتنفس الصعداء من ذلك فأنهاه إلى السلطان فاستدعاني لوقته وارتحلت من بسكرة بالأهل والولد في يوم المولد الكريم سنة أربع وسبعين متوجهاً إلى السلطان وقد كان طرقه المرض فما هو إلا أن وصلت مليانة من أعمال المغرب الأوسط فلقيني هنالك خبر وفاته وأن ابنه أبا بكر السعيد نصب بعده للأمر في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي وإنه ارتحل إلى المغرب الأقصى مغذاً السير إلى فاس وكان على مليانة يومئذ علي بن حسون بن أبي علي اليناطي من قواد السلطان وموالي بيته فارتحلت معه إلى أحياء العطاف ونزلنا على أولاد يعقوب بن موسى من أمرائهم وبذرق لي بعضهم إلى حلة أولاد عريف‏:‏ أمراء سويد ثم لحق بنا بعد أيام علي بن حسون في عساكره وارتحلنا جميعاً إلى المغرب على طريق الصحراء وكان أبو حمو قد رجع بعد مهلك السلطان من مكان انتباذه بالقفر في تيكورارين إلى تلمسان فاستولى عليها وعلى سائر أعماله فأوعز إلى بني يغمور من شيوخ عبيد الله من المعقل أن يعترضونا بحدود بلادهم من رأس العين مخرج وادي زا فاعترضونا هنالك فنجا من نجا منا على خيولهم إلى جبل دبدو وانتهبوا جميع ما كان معنا وأرجلوا الكثير من الفرسان وكنت فيهم وبقيت يومين في قفره ضاحياً عارياً إلى أن خلصت إلى العمران ولحقت بأصحابي بجبل دبدو ووقع في خلال من الألطاف ما لا يعبر عنه ولا يسع الوفاء بشكره‏.‏ثم سرنا إلى فاس ووفدت على الوزير أبي بكر وابن عمه محمد بن عثمان بفاس في جمادى من السنة وكان لي معه قديم صحبة واختصاص منذ نزع معي إلى السلطان أبي سالم بجبل الصفيحة عند إجازته من الأندلس لطلب ملكه كما مر في غير موضع من الكتاب فلقيني من بر الوزير وكرامته وتوفير جرايته وإقطاعه فوق ما أحتسب وأقمت بمكاني من دولتهم أثير المحل نابه الرتبة عريض الجاه منوه المجلس‏.‏ثم انصرم فصل الشتاء وحدث بين الوزير أبي بكر بن غازي وبين السلطان ابن الأحمر منافرة بسبب ابن الخطيب وما دعا إليه ابن الأحمر من إبعاثه عنهم وأنف الوزير من ذلك فأظلم الجو بينهما وأخذ الوزير في تجهيز بعض القرابة من بني الأحمر للإجلاب على الأندلس فبادر ابن الأحمر إلى إطلاق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن من ولد السلطان أبي علي والوزير مسعود بن رحو بن ماساي كان حبسهما أيام السلطان عبد العزيز وبإشارته بذلك لابن الخطيب حين كان في وزارته بالأندلس فأطلقهما الآن وبعثهما لطلب الملك بالمغرب وأجازهما في الأسطول إلى سواحل غساسة فنزلوا بها ولحقوا بقبائل بطوية هنالك فاشتملوا عليهم وقاموا بدعوة الأمير عبد الرحمن‏.‏ونهض ابن الأحمر من غرناطة في عساكر الأندلس فنزل على جبل الفتح يحاصره‏.‏وبلغت الأخبار بذلك إلى الوزير أبي بكر بن غازي القائم بدولة بني مرين فجهز لحينه ابن عمه محمد بن الكاس إلى سبته لامداد الحامية الذين لهم بالجبل ونهض هو في العساكر إلى بطوية لقتال الأمير عبد الرحمن فوجده قد ملك تازى فأقام عليها يحاصره وكان السلطان عبد العزيز قد جمع شباباً من بني أبيه المرشحين فحبسهم بطنجة فلما وافى محمد بن الكاس سبتة وقعت المراسلة بينه وبين ابن الأحمر وعتب كل منهما صاحبه على ما كان منه واشتد عذل ابن الأحمر على إخلائهم الكرسي من كفئه ونصبهم السعيد بن عبد العزيز صبياً لم يثغر فاستعتب له محمد واستقال من ذلك فحمله ابن الأحمر على أن يبايع لأحد الأبناء المحبوسين بطنجة وقد كان الوزير أبو بكر أوصاه أيضاً بأنه إن تضايق عليه الأمر من الأمير عبد الرحمن فيفرج عنه بالبيعة لأحد أولئك الأبناء‏.‏وكان محمد بن الكاس قد استوزره السلطان أبو سالم لابنه أحمد أيام ملكه فبادر من وقته إلى طنجة وأخرج أحمد ابن السلطان أبي سالم من محبسه وبايع له وسار به إلى سبتة وكتب لابن الأحمر يعرفه بذلك ويطلب منه المدد على أن ينزل له عن جبل الفتح فأمده بما شاء من بالمال والعسكر واستولى على جبل الفتح وشحنه بحاميته وكان أحمد ابن السلطان أبي سالم قد تعاهد مع بني أبيه في محبسهم على أن من صار الملك إليه منهم يجيز الباقين إلى الأندلس فلما بويع له ذهب إلى الوفاء لهم بعهدهم وأجازهم جميعاً فنزلوا على السلطان ابن الأحمر فأكرم نزلهم ووفر جراياتهم‏.‏وبلغ الخبربذلك كله إلى الوزير أبي بكر بمكانه من حصار الأمير عبد الرحمن بتازة فأخفه المقيم المقعد من فعلة ابن عمه وقوض راجعاً إلى دار الملك وعسكر بكدية العرائس من ظاهرها وتوعد ابن عمه محمد بن عثمان فاعتذر بأنه إنما امتثل وصيته فاستشاط وتهدده واتسع الخرق بينهما وارتحل محمد بن عثمان بسلطانه ومدده من عسكر الأندلس إلى أن احتل بجبل زرهون المطل على مكناسة وعسكر به واشتملوا عليه وزحف إليهم الوزير أبو بكر وصعد الجبل فقاتلوه وهزموه ورجع إلى مكانه بظاهر دار الملك‏.‏وكان السلطان ابن الأحمر قد أوصى محمد بن عثمان بالاستعانة بالأمير عبد الرحمن والاعتضاد به ومساهمته في جانب من أعمال المغرب يستبد به لنفسه فراسله محمد بن عثمان في ذلك واستدعاه واستمده‏.‏وكان ونزمار بن عريف ولي سلفهم قد أظلم الجو بينه وبين الوزير أبي بكر لأنه سأله - وهو يحاصر تازى - في الصلح مع الأمير عبد الرحمن فامتنع واتهمه بمداخلته والميل له فاعتزم على القبض عليه ودس إليه بذلك بعض عيونه فركب الليل ولحق بأحياء الأحلاف من المعقل وكانوا شيعة للأمير عبد الرحمن ومعهم علي بن عمر الويعلاني كبير بني ورتاجن كان انتقض على الوزير ابن غازي ولحق بالسوس ثم خاض القفر إلى هؤلاء‏.‏الأحلاف فنزل بينهم مقيماً لدعوة الأمير عبد الرحمن‏.‏فجاءهم ونزمار مفلتاً من حبالة الوزير أبي بكر وحرضهم على ما هم فيه ثم بلغهم خبر السلطان أحمد بن أبي سالم ووزيره محمد بن عثمان وجاءهم وافد الأمير عبد الرحمن يستدعيهم وخرج من تازى فلقيهم ونزل بين أحيائهم ورحلوا جميعاً إلى إمداد السلطان أبي العباس حتى انتهوا إلى صفووى‏.‏ثم اجتمعوا جميعاً على وادي النجا وتعاقدوا على شأنهم وأصبحوا من الغد على التعبئة كل من ناحيته‏.‏وركب الوزير أبو بكر لقتالهم فلم يطق وولى منهزماً فانحجر بالبلد الجديد وخيم القوم بكدية العرائس محاصرين له وذلك أيام عيد الفطر من خمس وسبعين فحاصروها ثلاثة أشهر وأخذوا بمخنقها إلى أن جهد الحصار الوزير ومن معه فأذعن للصلح على خلع الصبي المنصوب السعيد ابن السلطان عبد العزيز وخروجه إلى السلطان أبي العباس ابن عمه والبيعة له وكان السلطان أبو العباس والأمير عبد الرحمن قد تعاهدوا - عند الاجتماع بوادي النجا - على التعاون والتناصر على أن الملك للسلطان أبي العباس بسائر أعمال المغرب وأن للأمير عبد الرحمن بلداً سجلماسة ودرعة والأعمال التي كانت لجده السلطان أبي علي أخي السلطان أبي الحسن ثم بدا للأمير عبد الرحمن في ذلك أيام الحصار واشتط بطلب مراكش وأعمالها فأغضوا له في ذلك وشارطوه عليه حتى يتم لهم الفتح فلما انعقد بما بين السلطان أبي العباس والوزير أبي بكر وخرج إليه من البلد الجديد ويخلع سلطانه الصبي المنصوب ودخل السلطان أبو العباس إلى دار الملك فاتح ست وسبعين وارتحل الأمير عبد الرحمن يغذ السير إلى مراكش وبدا للسلطان أبي العباس ووزيره محمد بن عثمان في شأنه فسرحوا العساكر في اتباعه وانتهوا خلفه إلى وادي بهت فواقفوه ساعة من نهار ثم أحجموا عنه وولوا على راياتهم وسار هو إلى مراكش ورجع عنه وزيره مسعود بن ماساي بعد أن طلب منه الإجازة إلى الأندلس يتودع بها فسرحه لذلك وسار إلى مراكش فملكها‏.‏وأما أنا فكنت مقيماً بفاس في ظل الدولة وعنايتها منذ ندمت على الوزير سنة ربع وسبعين كما مر عاكفاً على قراءة العلم وتدريسه فلما جاء السلطان أبو العباس والأمير عبد الرحمن وعسكروا بكدية العرائس وخرج أهل الدولة إليهم من الفقهاء والكتاب والجند وأذن للناس جميعاً في مباكرة أبواب السلطانين من غير نكير في ذلك فكنت أباكرهما معاً‏.‏وكان بيني وبين الوزير محمد بن عثمان ما مر ذكره قبل هذا فكان يظهر لي رعاية ذلك ويكثر من المواعيد وكان الأمير عبد الرحمن يميل إلي ويستدعيني أكثر أوقاته يشاورني في أحواله فغص بذلك الوزير محمد بن عثمان وأغرى سلطانه فقبض علي‏.‏وسمع الأمير عبد الرحمن بذلك وعلم أني إنما أوتيت من جراه فحلف ليقوضن خيامه وبعث وزيره مسعود بن ماساي لذلك فأطلقوني من الغد ثم كان افتراقهما لثالثه‏.‏ودخل السلطان أبو العباس دار الملك وسار الأمير عبد الرحمن إلى مراكش وكنت أنا يومئذ مستوحشاً فصحبت الأمير عبد الرحمن معتزماً على الإجازة إلى الأندلس من ساحل أسفي معولاً في ذلك على صحابة الوزير مسعود بن ماساي لهواي فيه فلما رجع مسعود انثنى عزمي في ذلك ولحقنا بونزمار بن عريف بمكانه من نواحي كرسيف لنقدمه وسيلة إلى السلطان أبي العباس صاحب فاس في الجواز إلى الأندلس ووافينا عنده داعي السلطان فصحبناه إلى فاس واستأذنه في شأني فأذن لي بعد مطاولة وعلى كره من الوزير محمد بن عثمان وسليمان بن داود بن أعراب ورجال الدولة‏.‏وكان الأخ يحيى لما رحل السلطان أبو حمو من تلمسان رجع عنه من بلاد زغبة إلى السلطان عبد العزيز فاستقر في خدمته وبعده في خدمة ابنه محمد السعيد المنصوب مكانه‏.‏ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد استأذن الأخ في اللحاق بتلمسان فأذن له وقدم على السلطان أبي حمو فأعاده إلى كتابة سره كما كان أول مرة وأذن لي أنا بعده فانطلقت إلى الأندلس بقصد القرار والدعة إلى أن كان ما نذكر‏.‏الإجازة ثانية إلى الأندلس ثم إلى تلمسان واللحاق بأحياء العرب والمقامة عند أولاد عريف ولما كان ما قصصته من تنكر السلطان أبي العباس صاحب فاس والذهاب مع الأمير عبد الرحمن ثم الرجوع عنه إلى ونزمار بن عريف طلباً لوسيلته في انصرافي إلى الأندلس بقصد القرار والانقباض والعكوف على قراءة العلم فتم ذلك ووقع الإسعاف به بعد الامتناع وأجزت إلى الأندلس في ربيع سنة ست وسبعين ولقيني السلطان بالبر والكرامة وحسن النزل على عادته وكنت لقيت بجبل الفتح كاتب السلطان ابن الأحمر من بعد ابن الخطيب الفقيه أبا عبد الله بن زمرك ذاهباً إلى فاس في غرض التهنئة وأجاز إلى سبتة في أسطوله وأوصيته بإجازة أهلي وولدي إلى غرناطة فلما وصل إلى فاس وتحدث مع أهل الدولة في إجازتهم تنكروا لذلك وساءهم استقراري بالأندلس واتهموا أني ربما أحمل السلطان ابن الأحمر على الميل إلى الأمير عبد الرحمن الذي اتهموني بملابسته ومنعوا أهلي من اللحاق بي‏.‏وخاطبوا السلطان ابن الأحمر في أن يرجعني إليهم فأبى من ذلك فطلبوا منه أن يجيزني إلى عدوة تلمسان وكان مسعود بن ماساي قد أذنوا له في اللحاق بالأندلس فحملوه على مشافهة السلطان بذلك وأبدوا له أني كنت ساعياً في خلاص ابن الخطيب وكانوا قد اعتقلوه لأول استيلائهم على البلد الجديد وظفرهم به‏.‏ وبعث إلي ابن الخطيب من محبسه مستصرخاً بي ومتوسلاً‏.‏فخاطبت في شأنه أهل الدولة وعولت فيه منهم على ونزمار وابن ماساي فلم تنجح تلك السعاية وقتل ابن الخطيب بمحبسه فلما قدم ابن ماساي على السلطان ابن الأحمر - وقد أغروه بي - فألقى إلى السلطان ما كان مني في شأن ابن الخطيب فاستوحش لذلك وأسعفهم بإجازتي إلى العدوة ونزلت بهنين والجو بيني وبين السلطان أبي حمو مظلم بما كان مني في إجلاب العرب عليه بالزاب كما مر‏.‏فأوعز بمقامي بهنين ثم وفد عليه محمد بن عريف فعذله في شأني فبعث عني إلى تلمسان واستقررت بها بالعباد‏.‏ولحق بي أهلي وولدي من فاس وأقاموا معي وذلك في عيد الفطر سنة ست وسبعين وأخذت في بث العلم وعرض للسلطان أبي حمو أثناء ذلك رأي في الدواودة وحاجة إلى استئلافهم فاستدعاني وكلفني السفارة إليهم في هذا الغرض فاستوحشت منه ونكرته على نفسي لما آثرته من التخلي والانقطاع وأجبته إلى ذلك ظاهراً وخرجت مسافراً من تلمسان حتى انتهيت إلى البطحاء فعدلت ذات اليمين إلى منداس ولحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول فتلقوني بالتحفي والكرامة وأقمت بينهم أياماً حتى بعثوا عن أهلي وولدي من تلمسان وأحسنوا العذر إلى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته وأنزلوني بأهلي في قلعة ابن سلامة من بلاد بني توجين التي صارت لهم بإقطاع السلطان فأقمت بها أربعة أعوام متخلياً عن الشواغل كلها وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها الفيئة إلى السلطان أبي العباس بتونس والمقام بها ولما نزلت بقلعة ابن سلامة بين أحياء أولاد عريف وسكنت منها بقصر أبي بكر بن عريف الذي اختطه بها وكان من أحفل المساكن وأوثقها‏.‏ثم طال مقامي هنالك وأنا مستوحش من دولة المغرب وتلمسان وعاكف على تأليف هذا الكتاب وقد فرغت من مقدمته إلى أخبار العرب والبربر وزناتة وتشوفت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي لا توجد إلا بالأمصار بعد أن أمليت الكثير من حفظي وأردت التنقيح والتصحيح ثم طرقني مرض أوفى بي على الثنية لولا ما تدارك من لطف الله فحدث عندي ميل إلى مراجعة السلطان أبي العباس والرحلة إلى تونس حيث قرار آبائي ومساكنهم وآثارهم وقبورهم فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته والمراجعة وانتظرت فما كان غير بعيد وإذا بخطابه وعهوده بالأمان والاستحثاث للقدوم فكان الخفوف للرحلة فطعنت عن أولاد عريف مع عرب الأخضر من بادية رياح كانوا هنالك ينتجعون الميرة بمنداس‏.‏وارتحلنا في رجب سنة ثمانين وسلكنا القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب‏.‏ثم صعدت إلى التل مع حاشية يعقوب بن علي وجدتهم بفرفار الضيعة التي اختطها بالزاب فرحلتهم معي إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة ومعه صاحبها الأمير إبراهيم بن السلطان أبي العباس بمخيمه وفي عسكره فحضرت عنده وقسم لي من بره وكرامته فوق الرضى‏.‏وأذن لي في الدخول إلى قسنطينة وإقامة أهلي في كفالة إحسانه بينما أصل إلى حضرة أبيه‏.‏وبعث يعقوب بن علي معي ابن أخيه أبي دينار في جماعة من قومهم وسرنا إلى السلطان أبي العباس وهو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها فوافيته بظاهر سوسة فحيا وفادتي وبر مقدمي وبالغ في تأنيسي وشاورني في مهمات أموره ثم ردني إلى تونس وأوعز إلى نائبه بها مولاه فارح بتهيئة المنزل والكفاية في الجراية والعلوفة وجزبل الإحسان فرجعت إلى تونس في شعبان من السنة وآويت إلى ظل ظليل من عناية السلطان وخرمته وبعثت عن الأهل والولد وجمعت شملهم في مرعى تلك النعمة وألقيت عصا التسيار وطالت غيبة السلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد وذهب فلهم في النواحي ولحق زعيمهم يحيى بن يملول ببسكرة ونزل على صهره ابن مزني وقسم السلطان بلاد الجريد بين ولده فأنزل ابنه محمد المنتصر بتوزر وجعل نفطة ونفزاوة من أعماله وأنزل ابنه أبا بكر بقفصة وعاد إلى تونس مظفراً ماهداً فأقبل علي واستدناني لمجالسته والنجي في خلوته فغص بطانته بذلك وأفاضوا في السعايات عند السلطان فلم تنجح وكانوا يعكفون على إمام الجامع وشيخ الفتيا محمد بن عرفة وكانت في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المربى بمجالس الشيوخ فكثيراً ما كان يظهر شفوفي عليه وإن كان أسن مني فاسودت تلك النكتة في قلبه ولم تفارقه‏.‏ولما قدمت تونس انثال علي طلبة العلم من أصحابه وسواهم يطلبون الإفادة والاستغال واسعفتهم بذلك فعظم عليه‏.‏وكان يسم التنفير إلى الكثير منهم فلم يقبلوا واشتدت غيرته ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه فاتفقوا على شأنهم في التأليب علي والسعاية بي والسلطان خلال ذلك معيرض عنهم في ذلك وقد كلفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوفه إلى المعارف والأخبار واقتناء الفضائل فأكملت منه أخبار البربر وزناته‏.‏وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل إلي منها وأكملت منه نسخة رفعتها إلى خزانته وكان مما يغرون به السلطان علي قعودي عن امتداحه فإني كنت قد أهملت الشعر وانتحاله جملة وتفرغت للعلم فقط فكانوا يقولون له إنما ترك ذلك استهانة بسلطانك لكثرة امتداحه للملوك قبلك وتنسمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم فلما رفعت له الكتاب وتوجته باسمه أنشدته ذلك اليوم هذه القصيدة أمتدحه وأذكر سيره وفتوحاته وأعتذر عن انتحال الشعر وأستعطفه بهدية الكتاب إليه وهي هذه‏:‏ هل غير بابك للغريب مؤمل أو عن جنابك للأماني معدل متبوأ الدنيا ومنتجع المنى والغيث حيث العارض المتهلل حيث القصور الزاهرات منيفة تعنى بها زهر النجوم وتحفل حيث الخيام البيض يرفع للعلا والمكرمات طرافها المتهدل حيث الحمى للعز في ساحاته ظل أفاءته الوشيج الذبل حيت الكرام ينوب عن نار القرى عرف الكباء بحيهم والمندل حيث الرماح يكاد يورق عودها مما تعل من الدماء وتنهل حيث الجياد أملهن بنو الوغى مما أطالوا في المغار وأوغلوا حيث الوجوه الغر قنعها الحيا والبشر في صفحاتها يتهلل حيث الملوك الصيد والنفر الألى عز الجوار لديهم والمنزل من شيعة المهدي بل من شيع ة التوحيد به الكتاب يفصل بل شيعة الرحمن ألقى حبهم في خلقه فسموا بذاك وفضلوا شادوا على التقوى مباني عزهم لله ما شادوا بذاك وأثلوا فضل الأنام حديثهم وقديمهم ولأنت إن فضلوا أعز وأفضل وبنوا على قلل النجوم ووطدوا وبناؤك العالي أشد وأطول ولقد أقول لخائض بحر الفلا والليل مزبد الجوانب أليل ماض علىغول الدجى لا يتقي تيهاً وذابله ذبال مشعل متقلب فوق الرحال كأنه طيف بأطراف المهاد موكل يبغي منال الفوز من طرق الغنى ويرود خصبها الذي لا يمحل أرح الركاب فقد ظفرت بواهب يعطي عطاء المنعمين فيجزل لله من خلق كريم في الندى كالروض حياه ندى مخضل هذا أمير المؤمنين إمامنا في الدين والدنيا إليه الموئل هذا أبو العباس خير خليفة شهدت له الشيم التي لا تجهل مستنصر بالله في قهر العدا وعلى إعانة ربه متوكل سبق الملوك إلى العلا متمهلا لله منك السابق المتمهل سائل تلمساناً بها وزناتة ومرين قبلهم كما قد ينقل وأسأل بأندلس مدائن ملكها تخبرك حين استيأسوا واستوهلوا واسأل بذا مراكشاً وقصورها ولقد تجيب رسومها من يسأل يا أيها الملك الذي في نعته ملء القلوب وفوق ما يتمثل لله منك مؤيد عزماته تمضي كما يمضي القضاء المرسل جئت الزمان بحيث أعضل خطبه فافتر عنه وهو أكلح أعصل والشمل من أبنائه متصدع وحمى خلافته مضاع مهمل والخلق قد صرفوا إليك قلوبهم ورجوا صلاح الحال منك وأملوا فعجلته لما انتدبت لأمره بالبأس والعزم الذي لا يمهل ذللت منه جامحاً لا ينثني سهلت وعراً كاد لا يتسهل وألنت من شرس العتاة وذدتهم عن ذلك الحرك الذي قد حللوا كانت لصولة صولة ولقومه يعدوا ذؤيب بها وتسطو المعقل حمزة‏.‏والمعقل فريق من العرب من أحلافهم‏.‏ومهلهل‏:‏ هم بنو مهلهل ابن قاسم أنظارهم وأقتالهم‏.‏ثم رجعت إلى وصف العرب وأحيائهم‏:‏ عجب الأنام لشأنهم بادون قد قذفت بحيهم المطي الذلل رفعوا القباب على العماد وعندها الجرد السلاهب والرماح العسل في كل ظامي الترب متقد الحصى تهوي للجته الظماء فتنهل جن شرابهم السراب ورزقهم رمح يروح به الكمي ومنصل حي حلول بالعراء ودونهم قذف النوى إن يظعنوا أو يقبلوا كانوا يروعون الملوك بما بدوا وغدت ترفه بالنعيم وتخضل فبدوت لا تلوي على دعة ولا تأوي إلى ظلل القصور تهدل طوراً يصافحك الهجير وتارة فيه بخفاق البنود تظلل وإذا تعاطي ضمراً يوم الوغى كأس النجيع فبالصهيل تعلل مخشوشنا في العز معتملاً له في مثل هذا يحسن المستعمل تفري حشا البيداء لا يسري بها ركب ولا يهوي إليها جحفل وبكل أسمر غصنه متأود وبكل أبيض شطه متهدل حتى تفرق ذلك الجمع الألى عصفت بهم ريح الجلاد فزلولوا ثم استملتهم بأنعمك التي خضعوا لعزك بعدها وتذللوا ونزعت من أهل الجريد غواية كانت بهم أبداً تجد وتهزل خربت من بنيانها ما شيدوا وقطعت من أسبابها ما أصلوا ونظمت من أمصاره وثغوره للملك عقداً بالفتوح يفصل فسددت مطلع النفاق وأنت لا تنبو ظباك ولا العزيمة تنكل بشكيمة مرهوبة وسياسة تجري كما يجري فرات سلسل عذب الزمان لها ولذ مذاقه من بعد ما قد مر منه الحنظل فضوى الأنام لعز أروع مالك سهل الخليقة ماجد متفضل وتطابقت فيك القلوب على الرضى سيان منها الطفل والمتكهل يا مالكاً وسع الزمان وأهله دعة وأمناً فوق ما قد أملوا سبحان من بهداك أوضح للورى قصد السبيل فأبصر المتأمل فكأنما الدنيا عروس تجتلى فتميس في حلل الجمال وترفل وكأن مطبقة البلاد بعدله عادت فسيحاً ليس فيه مجهل وكأن أنوار الكواكب ضوعفت من نور غرته التي هي أجمل وكأنما رفع الحجاب لناظر فرأى الحقيقة في الذي يتخيل وهنها في العذر عن مدحه‏:‏ مولاي غاضت فكرتي وتبلدت مني الطباع فكل شيء مشكل تسمو إلى درك الحقائق همتي فأصد عن إدراكهن وأعزل وأجد ليلي في امتراء قريحتي وتعود غوراً بينما تسترسل فأبيت يعتلج الكلام بخاطري والنظم يشرد والقوافي تجفل من بعد حول أنتقيه ولم يكن في الشعر حولي يعاب ويهمل فأصونه عن أهله متوارياً أن لا يضمهم وشعري محفل ومنها في ذكر الكتاب المؤلف لخزانته‏:‏ وإليك من سير الزمان وأهله عبراً يدين بفضلها من يعدل صحفاً تترجم عن أحاديث الألى غبروا فتجمل عنهم وتفصل تبدي التبابع والعمالق سرها وثمود قبلهم وعاد الأول والقائمون بملة الإسلام من مضر وبربرهم إذا ما حصلوا لخصت كتب الأولين لجمعها وأتيت أولها بما قد أغفلوا وألنت حوشي الكلام كأنما شرد اللغات بها لنطقي ذلل أهديت منه إلى علاك جواهراً مكنونة وكواكباً لا تأفل وجملته لصوان ملكك مفخرا يبأى الندي به ويزهو المحفل والله ما أسرفت فيما قلته شيئاً ولا الاسراف مما يجمل ولأنت أرسخ في المعارف رتبة من أن يموه عنده متطفل فملاك كل فضيلة وحقيقة بيديك تعرف وضعها إن بدلوا وكنت لما انصرفت عنه من معسكره على سوسة إلى تونس بلغني - وأنا مقيم بها - أنه أصابه في طريقه مرض وعقبه إبلال فخاطبته بهذه القصيدة‏:‏ ضحكت وجوه الدهر بعد عبوس وتجللتنا رحمة من بوس وتوضحت غرر البشائر بعد ما انبهمت فأطلعها حداة العيس صدعوا بها ليل الهموم كأنما صدعوا الظلام بجذوة المقبوس فكأنهم بثوا حياة في الورى نشرت لها الآمال من مرموس قرت عيون الخلق منها بالتي أضفت من النعماء خير لبوس فكأن قومي نادمتهم قرقف شربوا النعيم لها بغير كؤوس يتمايلون من المسرة والرضى ويقابلون أهلة بشموس من راكب وافى يحيي راكباً وجليس أنس قاده لجليس ومشفع لله يؤنس عنده أثر الهدى في المعهد المأنوس يعتد منها رحمة قدسية فيبوء للرحمن بالتقديس طب بإخلاص الدعاء وإنه يشفي من الداء العياء ويوسي والناصر الدين القويم بعزمة طرد استقامتها بغير عكوس هجر المنى فيها ولذات المنى في لذة التهجير والتغليس حاط الرعية بالسياسة فانضوت منه لإكرم مالك وسؤوس أسد يحامي عن حمى أشباله حتى ضووا منه لأمنع خيس قسماً بموشي البطاح وقد غدت تختال زهواً في ثياب عروس والماثلات من الحنايا جثما يخبرن عن طسم وفل جديس خوص مضمرة البطون كأنها أنضاء ركب في الفلاة حبيس وخز البلى منها الغوارب والذرى فلفتن خزراً بالعيون الشوس لبقاك حرز الأنام وعصمة وحياة أرواح لنا ونفوس ولأنت كافل ديننا بحماية لولاك ضيع عهدها وتنوسي الله أعطاك التي لا فوقها وحباك حظاً ليس بالموكوس تعنو القلوب إليك قبل وجوهنا سيان من رأس ومن مرءوس فانعم بملكك دولة عادية تشقي الأعادي بالعذاب البيس وإليكها مني على خجل بها عذراء قد حليت بكل نفيس غذراً فقد طمس الشباب ونوره وأضاء صبح الشيب عند طموس لولا عنايتك التي أوليتني ما كنت أعنى بعدها بطروس والله ما أبقت ممارسة النوى مني سوى مرس أحم دريس أنحى الزمان علي في الأدب الذي دارسته بمجامع ودروس فسطا على وفري وروع مأمني واجتث من دوح النشاط غروسي ورضاك رحمتي التي أعتدها تحيي منى نفسي وتذهب بوسي ثم كثرت سعاية البطانة بكل نوع من أنواع السعايات وابن عرفة يزيد في إغرائهم متى اجتمعوا إليه إلى أن أغروا السلطان بسفري معه ولقنوا النائب بتونس القائد فارح من موالي السلطان أن يتفادى من مقامتي معه خشية على أمره مني بزعمه وتواطأوا على أن يشهد ابن عرفة بذلك للسلطان فشهد به في غيبة مني ونكر السلطان عليهم ذلك ثم بعت إلي وأمرني بالسفر معه فسارعت إلى الامتثال وقد شق ذلك علي إلا أني لم أجد محيصاً عنه فخرجت معه وانتهيت إلى تبسة وسط تلول إفريقية وكان منحدراً في عساكره وتواليفه من العرب إلى توزر لأن ابن يملول كان أجلب عليها سنة ثلاث وثمانين واستنقذها من يد ابنه فسار السلطان إليه وشرده عنها وأعاد إليها ابنه وأولياءه‏.‏ولما نهض من تبسه رجعني إلى تونس فأقمت بضيعتي الرياحين من نواحيها لضم زروعي بها إلى أن قفل السلطان ظافراً منصوراً فصحبته إلى تونس‏.‏ولما كان شهر شعبان من سنة أربع وثمانين أجمع السلطان الحركة إلى الزاب بما كان صاحبه ابن مزنى قد آوى ابن يملول إليه ومهد له في جواره فخشيت أن يعود في شأني ما كان في السفرة قبلها‏.‏وكانت بالمرسى سفينة لتجار الإسكندرية قد شحنها التجار بأمتعهم وعروضهم وهي مقلعة إلى الإسكندرية فتطارحت على السلطان وتوسلت إليه في تخلية سبيلي لقضاء فرضي فأذن لي في ذلك وخرجت إلى المرسى والناس متسايلون على أثري من أعيان الدولة والبلد وطلبة العلم‏.‏فودعتهم وركبت البحر منتصف شعبان من السنة وقوضت عنهم بحيث كانت الخيرة من الله سبحانه وتفرغت لتجديد ما كان عندي من آثار العلم والله ولي الأمور سبحانه‏.‏الرحلة إلى المشرق وولاية القضاء بمصر ولما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين أقمنا في البحر نحواً من أربعين ليلة ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر‏.‏ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون وكنا على ترقب ذلك لما كان يؤثر بقاصية البلاد من سموه لذلك وتمهيده له‏.‏وأقمت بالإسكندرية شهراً لتهيئة أسباب الحج ولم يقدر عامئذ فاننقلت إلى القاهرة أول في القعدة فرأيت حضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام وكرسي الملك تلوح القصور والأواوين في جوه وتزهر الحوانك والمدارس بآفاقه وتضيء البدور والكواكب من علمائه قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجه ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة وأسواقها تزخر بالنعم‏.‏وما زلنا نحدث عن هذا البلد وبعد مداه في العمران واتساع الأحوال ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجهم وتاجرهم بالحديث عنه‏.‏سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين فقلت له‏:‏ كيف هذه القاهرة فقال‏:‏ من لم يرها لم يعرف عز الإسلام‏.‏وسألت شيخنا أبا العباس بن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال‏:‏ كأنما انطلق أهله من وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم سنة ست وخمسين وسأله عن القاهرة فقال‏:‏ أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار‏:‏ إن الذي يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال عن كل محسوس إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها‏.‏فأعجب السلطان والحاضرون بذلك‏.‏ولما دخلتها أقمت أياماً وانثال علي طلبة العلم بها يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة ولم يوسعوني عذراً فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها‏.‏ثم كان الاتصال بالسلطان فأبر اللقاء وأنس الغربة ووفر الجراية من صدقاته شأنه مع أهل العلم وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر اغتباطاً بعودي إليه فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه في تخلية سبيلهم فخاطبه في ذلك بما نصه‏.‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏عبد الله ووليه أخوه برقوق‏.‏السلطان الأعظم المالك الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر المظفر الشاهنشاه سيف الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين منصف المظلومين من الظالمين وارث الملك سلطان العرب والعجم والترك اسكندر الزمان مولي الإحسان مملك أصحاب التخوت والأسرة والتيجان واهب الأقاليم والأقطار مبيد الطغاة والبغاة والكفار ملك البحرين مسلك سبيل القبلتين خادم الحرمين الشريفين ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه سلطان البسيطة مؤمن الأرض المحيطة سيد الملوك والسلاطين قسيم أمير المؤمنين أبو سعيد برقوق ابن الشهيد شرف الدنيا والدين أبي المعالي أنس‏.‏خلد الله سلطانه ونصر جيوشه وأعوانه يخص الحضرة السنية السرية المظفرة الميمونة المنصورة المصونة حضرة السلطان العالم العادل المؤيد المجاهد الأوحد أبي العباس ذخر الإسلام والمسلمين عدة الدنيا والدين قدوة الموحدين ناصر الغزاة والمجاهدين سيف جماعة الشاكرين صلاح الدول‏.‏لا زالت مملكته بقوته عامرة ومهابته لنفوس الجبابرة قاهرة ومعدلته تبوئه غرفات العز في الدنيا والآخرة‏.‏سلام صفا ورده وضفا برده وثناء فاح نده ولاح سعده ووداد زاد وجده وجاد جده‏.‏أما بعد حمد الله الذي جعل القلوب أجناداً مجندة وأسباب الوداد على البعاد مؤكدة ووسائل المحبة بين الملوك في كل يوم مجددة والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله الذي نصره لله بالرعب مسيرة شهر وأيده وأعلى به منار الدين وشيده وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا طريقه وسؤدده صلاة دائمة مؤبده‏.‏فإننا نوضح لعلمه الكريم أن الله - وله الحمد - جعل جبلتنا الشريفة مجبولة على تعظيم العلم الشريف وأهله ورفعة شأنه ونشر أعلامه ومحبة أهله وخدامه وتيسير مقاصدهم وتحقيق أملهم والإحسان إليهم والتقرب إلى الله بذلك في السر والعلانية فإن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء وهداة خلق الله في أرضه لا سيما من رزقه الله الدراية فيما علمه من ذلك وهداه للدخول إليه من أحسن المسالك مثل كل سطرنا هذه المكاتبة بسببه‏:‏ المجلس السامي الشيخي الأجلي الكبيري العالمي الفاضلي الأثيلي الأثيري الإمامي العلامي القدوة المقتدي الفريدي المحققي الأصيلي الأوحدي الماجدي الولوي جمال الإسلام والمسلمين جمال العلماء في العالمين أوحد الفضلاء قدوة البلغاء علامة الأمة إمام الأئمة مفيد الطالبين خالصة الملوك والسلاطين عبد الرحمن بن خلدون المالكي‏.‏أدام الله نعمته فإنه أولى بالإكرام وأحرى وأحق بالرعاية وأجل قدراً وقد هاجر إلى ممالكنا الشريفة وآثر الإقامة عندنا بالديار المصرية لا رعبة عن بلاده بل تحبباً إلينا وتقرباً إلى خواطرنا بالجواهر النفيسة من ذاته الحسنة وصفاته الجميلة ووجدنا منه فوق ما في النفوس مما يجل عن الوصف ويربي على التعداد‏.‏يا له من غريب وصف ودار قد أتى عنكم بكل غريب وما برح - من حين ورد علينا - يبالغ في شكر الحضرة العلية ومدح صفاتها الجميلة إلى أن استمال خواصرنا الشريفة إلى حبها وآثرنا المكاتبة إليها‏.‏والعين تعشق قبل الأذن أحياناً وذكر لنا في أثناء ذلك أن أهله وأولاده في مملكة تونس تحت نظر الحضرة العلية وقصد إحضارهم إليه ليقيموا عنده ويجتمع شمله بهم مدة إقامته عندنا فاقتضت آراؤنا الشريفة الكتابة إلى الحضرة العلية لهذين السببين الجميلين وقد آثرنا إعلام الحضرة العلية بذلك ليكون على خاطره الكريم والقصد من محبته يقدم أمره العالي بطلب أهل الشيخ ولي الدين المشار إليه وإزاحة أعذارهم وإزالة عوائقهم والوصية بهم وتجهيزهم إليه مكرمين محترمين على أجمل الوجوه صحبة قاصده الشيخ الصالح العارف السالك الأوحد سعد الدين مسعود المكناسي الواصل بهذه المكاتبة أعزه الله ويكون تجهيزهم على مركب من مراكب الحضرة العلية مع توصية من بها من البحرية بمضاعفة إكرام المشار إليهم ورعايتهم والتأكيد عليهم في هذا المعنى وإذا وصل من بها من البحرية كان لهم الأمن والإحسان فوق ما في أنفسهم ويربي على أملهم بحيث يهتم بذلك على ما عهد من محبته وجميل اعتماده مع ما يتحف به من كتب خامس عشر صفر المبارك من سنة ست وثمانين وسبعمائة حسب المرسوم الشريف‏.‏الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏ثم هلك بعض المدرسين بمدرسة القمحية بمصر من وقف صلاح الدين بن أيوب فولاني تدريسها مكانه وبينا أنا في ذلك إذ سخط السلطان قاضي المالكية في دولته لبعض النزعات فعزله وهو رابع أربعة بعدد المذاهب يدعى كل منهم قاضي القضاة تمييزاً عن الحكام بالنيابة عنهم لاتساع خطة هذا المعمور وكثرة عوالمه وما يرتفع من الخصومات في جوانبه وكبير جماعتهم قاضي الشافعية لعموم ولايته في الأعمال شرقاً وغرباً وبالصعيد والفيوم واستقلاله بالنظر في أموال الأيتام والوصايا ولقد يقال بأن مباشرة السلطان قديماً بالولاية إنما كانت تكون له‏.‏فلما عزل هذا القاضي المالكي سنة ست وثمانين اختصني السلطان بهذه الولاية تأهيلاً لمكاني وتنويهاً بذكري وشافهته بالتفادي من ذلك فأبى إلا إمضاءه وخلع علي بإيوانه وبعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين فقصت بما دفع إلي من ذلك المقام المحمود ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله لا تأخذني في الحق لومة ولا يزعني عنه جاه ولا سطوة مسوياً في ذلك بين الخصمين آخذاً بحق الضعيف من الحكمين معرضاً عن الشفاعات والوسائل من الجانبين جانحاً إلى التثبت في سماع البينات والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر والطيب ملتبساً بالخبيث والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة فإن غالبهم مختلطون بالأمراء معلمين للقرآن وأئمة في الصلوات يلبسون عليهم بالعدالة فيظنون بهم الخير ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة والتوسل لهم فأعضل داؤهم وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع العقاب ومؤلم النكال وتأدى إلي العلم بالجرح في طائفة منهم فمنعتهم من تحمل الشهادة وكان منهم كتاب لدواوين القضاة والتوقيع في مجالسهم قد دربوا على إملاء الدعاوى وتسجيل الحكومات واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود بإحكام كتابتها وتوثيق شروطها فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم وتمويه على القضاة بجاههم يدرعون به مما يتوقعونه من عتبهم لتعرضهم لذلك بفعلاتهم وقد يسلط بعض منهم قلمه على العقود لمحكمة فيوجد السبيل إلى حلها بوجة فقهي أو كتابي ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة وخصوصاً في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه فأصبحت خافية الشهرة مجهولة الأعيان عرضة للبطلان باختلاف المذاهب المنصوبة للحكام بالبلد فمن اختار فيها بيعاً أو تمليكاً شارطوه وأجابوه مفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا دونه سد الحظر والمنع حماية عن التلاعب وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف وطرق الغرر في العقود والأملاك‏.‏فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم علي وأحقدهم ثم التفت إلى الفتيا بالمذهب وكان الحكام منهم على جانب من

  الخبرة لكثرة معارضتهم وتلقينهم الخصوم وفتياهم بعد نفوذ الحكم وإذا فيهم

أصاغربيناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون إذا بهم طفروا إلى مراتب الفتيا والتدريس فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف واحتازوها من غير مثرب ولا منتقد للأهلية ولا مرشح إذ الكثرة فيهم بالغة ومن كثرة الساكن مشتقة وقلم الفتيا في هذا المصر طلق وعنانها مرسل يتجاذب كل الخصوم منه رسنا ويتناول من حافته شقاً يرم به الفلج على خصمه ويستظهر به لإرغامه فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه وكفاء أمنيته متتبعاً إياه في شعاب الخلاف فتتعارض الفتاوى وتتناقض ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم والخلاف في المذاهب كثير والإنصاف متعذر وأهلية المفتي أو شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي فلا يكاد هذا المدد ينحسر ولا الشغب ينقطع‏.‏فصدعت في ذلك بالحق وكبحت أعنة أهل الهوى والجهل ورددتهم على أعقابهم‏.‏وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك لا ينتمون إلى شيخ مشهور ولا يعرف لهم كتاب في فن قد اتخذوا الناس هزؤاً وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ومأبنة للحرم فأرغمهم ذلك مني وملأهم حسداً وحقداً علي وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة يشترون بها الجاه ليجيروا به على الله وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم يترخصون به للإصلاح لا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل فقطعت الحبل في أيديهم وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه فلم يغنوا عنه من الله شيئاً وأصبحت زواياهم مهجورة وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة‏.‏وانطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضي وسوء الأحدوثة عني بمختلق الإفك وقول الزور يبثونه في الناس ويدسون إلى السلطان التظلم مني فلا يصغي إليهم وأنا في ذلك محتسب عند الله ما فنيت به من هذا الأمر ومعرض فيه عن الجاهلين وماض على سبيل سواء من الصرامة وقوة الشكيمة وتحري المعدلة وخلاص الحقوق والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها وصلابة العود عن الجاه والأغراض متى غمزني لامسها ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة فنكروه علي ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر ومراعاة الأعيان والقضاء للجاه بالصور الظاهرة أو دفع الخصوم إذا تعذرت بناء على أن وليت شعري‏!‏ ما عذرهم في الصور الظاهرة إذا علموا خلافها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك‏:‏ ‏"‏ من قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقضي له من النار ‏"‏‏.‏فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها والوفاء لها ولمن قلدنيها فأصبح الجميع علي ألبا ولمن ينادي بالتأفف مني عوناً وفي النكير علي أمة وأسمعوا الشهود الممنوعين أن قد قضيت فيهم بغير الحق لاعتمادي على علمي في الجرح وهي قضية إجماع وانطلقت الألسنة وارتفع الصخب وأرادني بعض على الحكم بغرضهم فوقفت وأغروا بي الخصوم فتنادوا بالتظلم عند السلطان وجمع القضاة وأهل الفتيا في مجلس حفل للنظر في ذلك فخلصت تلك الحكومة من الباطل خلوص الإبريز وتبين أمرهم للسلطان وأمضيت فيها حكم الله إرغاماً لهم فغدوا على حرد قادرين وعسوا لأولياء السلطان وعظماء الخاصة يقبحون لهم إهمال جاههم ورد شفاعتهم مموهين بأن الحامل على ذلك جهل المصطلح وينفقون هذا الباطل بعظائم ينسبونها إلي تبعث الحليم وتغري الرشيد يستثيرون حفائظهم علي ويشربونهم البغضاء لي والله مجازيهم ومسائلهم‏.‏فكثر الشغب علي من كل جانب وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة‏.‏ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد وصلوا من المغرب في السفين فأصابها قاصف من الريح فغرقت وذهب الموجود والسكن والمولود فعظم المصاب والجزع ورجح الزهد واعتزمت على الخروج عن المنصب فلم يوافقني عليه النصيح ممن استشرته خشية من نكير السلطان وسخطه فوقفت بين الورد والصدر وعلى صراط الرجاء واليأس وعن قريب تداركني اللطف الرباني وشملتني نعمة السلطان - أيده الله - في النظر بعين الرحمة وتخلية سبيلي من هذه العهدة التي لم أطق حملها ولا عرفت - كما زعموا - فصطلحها فردها إلى صاحبها الأول وأنشطني من عقالها فانطلقت حميد الأثر مشيعاً من الكافة بالأسف والدعاء وحميد الثناء تلحظني العيون بالرحمة وتتناجى الآمال في بالعودة ورتعت فيما كنت راتعاً فيه قبل من مراعي نعمته وظل رضاه وعنايته قانعاً بالعافية التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه عاكفاً على تدريس علم أو قراءة كتاب أو إعمال قلم في تموين أو تأليف مؤملاً من الله قطع صبابة العمر في العبادة ومحو عوائق السعادة بفضل الله ونعمته‏.‏السفر لقضاء الحج ثم مكثت بعد العزل ثلاث سنين واعتزمت على قضاء الفريضة فودعت السلطان والأمراء وزودوا وأعانوا فوق الكفاية‏.‏وخرجت من القاهرة منتصف رمضان سنة تسع وثمانين إلى مرسى الطور بالجانب الشرقي من بحر السويس وركبت البحر من هنالك عاشر الفطر ووصلنا إلى الينبع لشهر فوافينا المحمل ورافقتهم من هنالك إلى مكة ودخلتها ثاني ذي الحجة فقضيت الفريضة في هذه السنة ثم عدت إلى الينبع فأقمت به خمسين ليلة حتى تهيأ لنا ركوب البحر ثم سافرنا إلى أن قاربنا مرسى الطور فاعترضتنا الرياح فما وسعنا إلا قطع البحر إلى جانبه الغربي ونزلنا بساحل القصير ثم بفرقنا مع أعراب تلك الناحية إلى مدينة قوص قاعدة الصعيد فأوحنا بها أياماً ثم ركبنا في بحر النيل إلى مصر فوصلنا إليها لشهر من سفرنا ودخلتها في جمادى سنة تسعين وقضيت حق السلطان في لقائه وإعلامه بما اجتهدت فيه من الدعاء له فتقبل ذلك مني بقبول حسن وأقمت فيما عهدت من رعايته وظل إحسانه‏.‏وكنت لما نزلت بالينبع لقيت بها الفقيه الأديب المتقن أبا القاسم بن محمد ابن شيخ الجماعة وفارس الأدباء ومنفق سوق البلاغة أبي إسحق إبراهيم الساحلي المعروف جده بالطويجن وقد قدم حاجاً وفي صحبته كتاب رسالة من صاحبنا الوزير الكبير العالم كاتب سر السلطان ابن الأحمر صاحب غرناطة الحظي لديه أبي عبد الله بن زمرك خاطبني فيه بنظم ونثر يتشوق ويذكر بعهود الصحبة نصه‏:‏ سلوا البارق النجدي من علمي نجد تبسم فاستبكى جفوني من الوجد ويا زاجري الأظعان وهي ضوامر دعوها ترد هيماً عطاشفاً على نجد ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصبا فإن زفير الشوق من مثلها يعدي يراها الهوى بري القداح وخطها حروفاً على صفح من القفر ممتد عجبت لها أني تجاذبني الهوى وما شوقها شوقي ولا وجدها وجدي لئن شاقها بين الغذيب وبارق مياه بفيء الظل للبان والرند فما شاقني إلا بذور خدورها وقد لحن يوم النفر في قصب ملد فكم في قباب الحي من شمس كلة وفي فلك الأزرار من قمر سعد وكم صارم قد شل من لحظ أحور وكم ذابل قد هز من ناعم القد خذوا الحذر من سكان رامة إنها ضعيفات كر اللحظ تفتك بالأسد سهام جفون عن قسي حواجب يصاب بها قلب البريء على عمد وروض جمال ضاع عرف نسيمه وما ضاع غير الورد في صفحة الخد ونرجس لحظ أرسل الدمع لؤلؤاً فرش بماء الورد روضاً من الورد وما شاقني والطيف يرهب أدمعي ويسبح في بحر من الليل مزبد وقد سل خفاق الذؤابة بارق كما سل لماع الصقال من الغمد وهزت محلاة يد الشوق في الدجى فحل الذي أبرمت للصبر من عقدي وأفلق خفاق الجوانح نسمة تنم مع الإصباح خافقة البرد وهب عليل لف طي بروده أحاديث أهداها إلى الغور من نجد سوى صادح في الأيك لم يدر ما الهوى ولكن دعا مني الشجون على وعد فهل عند ليلى نعم الله ليلها بأن جفوني ما تمل من السهد وليلة إذ ولى الحجيج على منى وفت لي المنى منها بما شئت من قصد فقضيت منها - فوق ما أحسب - المنى وبرد عفافي صانه الله من برد وليس سوى لحظ خفي نجيله وشكوى كما ارفض الجمان من العقد غفرت لدهري بعدها كل ما جنى سوى ما جنى وفد المشيب على فودي عرفت بهذا الشيب فضل شبيبتي وما زال فضل الضد يعرف بالضد نسيت وما أنسى وفائي لخلتي وأقفر ربع القلب إلا من الوجد إليك أبا زيد شكاة رفعتهما وما أنت من عمرو لدي ولا زيد بعيشك خبرني وما زلت مفضلاً أعندك من شوق كمثل الذي عندي فكم ثار بي شوق إليك مبرح فظلت يد الأشواق تقدح من زندي وصفق حتى الريح في لمم الربى وأشفق حتى الطفل في كبد المهد يقابلني منك الصباح بوجنة حكى شفقاً فيه الحياء الذي تبدي وتوهمني الشمس المنيرة غرة بوجهك صان الله وجهك عن رد محياك أجلى في العيون من الضحى وذكرك أحلى في الشفاه من الشهد وما أنت إلا الشمس في علو أفقها تفيدك من قرب وتلحظ من بعد وفي عمة من لا ترى الشمس عينه وما نفع نور الشمس في الأعين الرمد من القوم صانوا المجد صون عيونهم كما قد أباحوا المال ينهب للرفد إذا ازدحمت يوماً على المال أسرة فما ازدحموا إلا مورد المجد أتنسى ولا تنسى ليالينا التي خلسنا بهن العيش في جنة الخلد ركبنا إلى اللذات في طلق الصبا مطايا الليالي وادعين إلى حد فإن لم نرد فيها الكؤس فإننا وردنا بها للأنس مستعذب الورد أتيتك في غرب وأنت رئيسه وبابك للأعلام مجتمع الوفد فآنست حتى ما شكوت بغربة وواليت حتى لم أجد مضض الفقد وعدت لقطري شاكراً ما بلوته من الخلق المحمود والحسب العد إلى أن أجزت البحر يا بحر نحونا وزرت مزار الغيث في عقب الجهد ألذ من النعمى على حال فاقة وأشهى من الوصل الهني على صد وإن ساءني أن قوضت رحلك النوى وعوضت عنا بالذميل وبالوخد لقد سرني أن لحت في أفق العلا على الطائر الميمون والطالع السعد طلعت بأفق الشرق نجم هداية فجئت مع الأنوار فيه على وعد يميناً بمن تسري المطي سواهماً عليها سهام قد رمت هدف القصد وإني بباب الملك حيث عهدتني مديد ظلال الجاه مستحصف العقد أجهز بالإنشاء كل كتيبة من الكتب والكتاب في عرضها جندي نلوذ من المولى الإمام محمد بظل على نهر المجرة ممتد إذا فاض من يمناه بحر سماحة وعم به الطوفان في النجد والوهد ركبنا إلى الإحسان في سفن الرجا بحور عطاء ليس تجزر عن مد فمن مبلغ الأمصار عني ألوكة مغلغلة في الصدق منجزة الوعد بآية ما أعطى الخليفة ربه مفاتيح فتح ساقها سائق السعد ودونك من روض المحامد نفحة تفوت إذا اصطف الندي عن الند ثناء يقول المسك إن ضاع عرفه أيا لك من ند أما لك من ند وما الماء في جوف السحاب مروقاً بأطهر ذاتاً منك في كنف بالمهد فكيف وقد حلتك أسرابها الحلى وباهت بك الأعلام بالعلم الفرد وما الطل في ثغر من الدهر باسم بأصفى وأذكى من ثنائي ومن ودي ووصلها بقوله‏:‏ سيدي علم الأعلام كبير رؤساء الإسلام مشرف حملة السيوف والأقلام جمال الخواص والظهراء أثير الدول خالصة الملوك مجتبى الخلفاء نير أفق العلاء أوحد الفضلاء قدوة العلماء حجة البلغاء‏.‏أبقاكم الله بقاء جميلاً يعاقد لواء الفخر ويعلي منار الفضل ويرفع عماد المجد ويوضح معالم السؤدد ويرسل أشعة السعادة ويفيض أنوار الهداية ويطلق ألسنة المحامد وينشر أفق المعارف ويعذب موارد العناية ويمتع بعمر النهاية ولا نهاية‏.‏بأي التحيات أفاتحك وقدرك أعلى ومطلع فضلك أوضح وأجلى إن قلت تحية كسرى في السناء وتبع فأثر لا يقتفر ولا يتبع تلك تحية عجماء لا تبين ولا تبين وزمزمة نافرها اللسان العربي المبين وهذه جهالة جهلاء لا ينطبق على حروفها الاستعلاء قد محا رسومها الجفاء وعلى آثار دمنتها العفاء وإن كانت التحيتان طالما أوجف بهما الركاب وقعقع البريد ولكن أين يقعان مما أريد‏.‏تحية الإسلام أصل شي الفخر نسبا وأوصل بالشرع سببا فالأولى أن أحييك بما حيا الله في كتابه رسله وأنباءه وحيت به ملائكته في جواره أولياءه فأقول‏:‏ سلام عليكم يرسل من رحمات الله غماماً ويفتق من الطروس عن أزهار المحامد كماماً ويستصحب من البركات ما يكون على الذي أحسن من ذلك تماماً وأجدد السؤال عن الحال الحالية بالعلم والدين المستمدة من أنوارها سرج المهتدين‏.‏زادها الله صلاحاً وعرفها نجاحاً يتبع فلاحاً وأقرر ما عندي من تعظيم أرتقي كل آونة شرفه واعتقاد جميل يرفع عن وجه البدر كلفه وثناء انشر بيد الترك صحافه وعلى ذلك أيها السيد المالك فقد تشعبت علي في مخاطبتك المسالك إن أخذت في تقرير فخرك العميم وحسبك الصميم فو الله ما أدري بأي ثنية للفخر يرفع العلم وفي أي بحر من ثنائك يسبح القلم الأمر جلل والشمس تكبر عن حلي وعن حلل وإن أخذت في شكاة الفراق والاستعداء على الأشواق اتسع المجال وحصرت الروية والارتجال فالأولى أن أترك عذبة اللسان تلعب بها رياح الأشواق وأسلة اليراع تخضب مفارق الطروس بنجيع الحبر المراق وغيرك من تركض في مخاطبته جياد اليراع في مجال الرقاع مستولية على أمد الإبداع والاختراع إنما هو بث يبكى وفراق يشكى فيعلم الله حرصي على أن أشافه عن أنبائك ثغور البروق البواسم وأن أحملك الرسائل حتى مع سفراء النواسم وأن أجتلي غرر ذلك الجبين في محيا الشارق ولمح البارق‏.‏ولقد وجهت لك جملة من الكتب والقصائد ولا كالقصيدة الفريدة في تأبين الجواهر التي استأثر بهن البحر قدس الله أرواحهم وأعظم أجرك فيهم فإنها أنافت على مائة وخمسين بيتاً ولا أدري هل بلغكم ذلك أم غاله الضياع وغدر وصوله بعد المسافة والذي يطرق لي سوء الظن بذلك ما صدر في مقابله منكم‏.‏فإني على علم من كرم قصدكم وحسن عهدكم‏.‏ومن حين استقل نيركم بذلك بالأفق الشرقي لم يصلني منكم كتاب مع علمي بضياع اثنين منها بهذا الأفق الغربي‏.‏انتهى‏.‏وفي الكتاب إشارة إلى أنه بعث قصيدة في مدح الملك الظاهر صاحب مصر ويطلب مني رفعها إلى السلطان وعرضها عليه بحسب الإمكان وهي على روي الهمزة ومطلعها‏:‏ أمدامع منهلة أم لؤلؤ لما استهل العارض المتلألئ وبعثها في طي الكتاب واعتذر بأنه استناب في نسخها فكتبت همزة رويها ألفاً قال وحقها أن تكتب بالواو لأنها تبدل بالواو وتسهل بين الهمزة والواو وحرف الإطلاق أيضا يسوقها واواً‏.‏هذا مقتضى الصناعة وإن قال بعض الشيوخ تكتب ألفاً على كل حال على لغة من لا يسهل لكنه ليس بشيء‏.‏وأذن لي في نسخ القصيدة المذكورة بالخط المشرقي لتسهل قراءتها عليهم ففعلت ذلك ورفعت النسخة والأصل للسلطان وقرأها كاتب سره عليه ولم يرجع إلي منهما شيء ولم أستجز أن أنسخها قبل رفعها إلى السلطان فضاعت من يدي‏.‏وكان في الكتاب فصل عرفني فيه بشأن الوزير مسعود بن رحو المستبد بأمر المغرب لذلك العهد وما جاء به من الانتقاض عليهم والكفران لصنيعهم يقول فيه‏:‏ كان مسعود بن رحو الذي أقام بالأندلس عشرين عاماً يتبنك النعيم ويقود الدنيا ويتخير العيش والجاه قد أجيز صحبة ولد أبي عنان كما تعرفتم من نسخة كتاب أنشأته بجبل الفتح لأهل الحضرة فاستولى على المملكة وحصل على الدنيا وانفرد برياسة دار المغرب لضعف السلطان رحمه الله ولم يكن إلا أن كفرت الحقوق وحنظلت نخلته السحوق وشف على سواد جلدته العقوق وداخل من بسبتة فانتقضت طاعة أهلها وظنوا أن القصبة لا تثبت لهم وكان قائدها الشيخ البهمة فل الحصار وحلي القتال ومحش الحرب أبو زكرياء بن شعيب فثبت للصدمة ونور للأندلس فبادره المدد من الجبل ومن مالقة‏.‏وتوالت الأمداد وخاف أهل البلد وراجع شرفاؤه ودخلوا القصبة‏.‏واستغاث أهل البلد بمن جاورهم وجاءهم المدد أيضاً‏.‏دخل الصالحون في رغبة هذا المقام ورفع القتال‏.‏وفي أثناء ذلك غدروا ثانية فاستدعى الحال إجازة السلطان المخلوع أبي العباس لتبادر القصبة به ويتوجه منها إلى المغرب لرغبة بني مرين وغيرهم فيه وهو ولد السلطان المرحوم أبي سالم الذي قلدكم رياسة داره وأوجب لكم المزية على أوليائه وأنصاره انتهى‏.‏

والمرغوب من سيدي أن يبعث لي ما أمكن من كلام فضلاء الوقت وأشياخهم على الفاتحة إذ لا يمكن بعث تفسير كامل لأني أثبت في تفسيرها ما أرجو النفع به عند الله‏.‏وقد أعلمتكم أن عندي التفسير أوصله إلى المغرب عثمان التجاني من تأليف الطيبي والسفر الأول من تفسير أبي حيان وملخص إعرابه وكتاب المغني لابن هشام وسمعت عن بدأة تفسير للإمام بهاء الدين بن عقيل ووصلت إلي بدأة من كلام أكمل الدين الأثيري رضي الله عن جميعهم‏.‏ولكن لم يصل إلا للبسملة وذكر أبو حيان في صدر تفسيره أن شيخه سليمان النقيب أو أبو سليمان‏.‏لا أدري الآن صنف كتاباً في البيان في سفرين جعله مقدمة في كتاب تفسيرة الكبير فإن أمكن سيدي توجيهه‏.‏انتهى‏.‏وفي الكتاب فصول أخرى في أغراض متعددة لا حاجة إلى ذكرها هنا‏.‏ثم ختم الكتاب بالسلام وكتب اسمه‏:‏ محمد بن يوسف بن زمرك الصريحي وتاريخه العشرون من محرم تسع وثمانين‏.‏وكتب إلي قاضي الجماعة بغرناطة أبو الحسن علي بن الحسن البني‏:‏ الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله‏.‏يا سيدي وواحدي وداً وحباً ونجي الروح بعداً وقرباً‏.‏أبقاكم الله وثوب سيادتكم سابغ وقمر سعادتكم - كلما أفلت الأقمار - بازغ أسلم بأتم السلام عليكم وأقرر بعض ما لدي من الأشواق إليكم من حضرة غرناطة - مهدها الله - عن ذكر لكم يتضوع طيبه وشكر لا يذوي - وإن طال الزمان - رطيبه وقد كان بلغ ما جرى من تأخيركم عن الولاية التي تقلدتم أمرها وتحملتم مرها فتمثلت بما قاله شيخنا أبو الحسن ابن الجياب عند انفصال صاحبه الشريف أبي القاسم عن خطة القضاء‏:‏ لا مرحباً بالناشز الفارك إذ جهلت رفعة مقدارك لو أنها قد أوتيت رشدها ما برحت تعشو إلى نارك ثم تعرفت كيفية انفصالكم وأنه كان عن رغبة من السلطان المؤيد هنالكم فرددت - وقد توهمت مشاهدتكم - هذه الأبيات‏:‏ لك الله يا بدر السماحة والبشر لقد حزت في الأحكام منزلة الفخر ولكنك استعفيت عنها تورعاً وتلك سبيل الصالحين كما تدري جريت على نهج السلامة في الذي تخيرته أبشر بأمنك في الحشر وحقق بأن العلم ولاك خطة من العز لا تنفك عنها مدى العمر تزيد على مر الجديدين جدة وتسري النجوم الزاهرات ولا تسري وأمسى لأنواع الولايات نابذاً فغير نكير أن تواجه بالنكر فيهنيك يهنيك الذي أنت أهله من الزهد فيها والتوقي من الوزر ولا تكترث من حاسديك فإنهم حصى والحصى لا يرتقي مرتقى البدر ومن عامل الأقوام بالله مخلصاً له منهم نال الجزيل من الأجر بقيت لربع الفضل تحمي ذماره وخار لك الرحمن في كل ما تجري إيه سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم وأطنبتم في كتابكم في الثناء على السلطان الذي أنعم بالإبقاء والمساعدة على الانفصال عن خطة القضاء واستوهبتم الدعاء له ممن هنا من الأولياء ولله دركم في التنبيه على الإرشاد إلى ذلكم فالدعاء له من الواجب إذ فيه استقامة الأمور وصلاح الخاصة والجمهور وعند ذلك ارتفعت أصوات العلماء والصلحاء بهذا القطر له ولكم بجميل الدعاء‏.‏أجاب الله فيكم أحسنه وأجمله وبلغ كل واحد منكم ما قصده وأمله‏.‏وأنتم أيضاً من أنتم من أهل العلم والجلالة والفضل والأصالة وقد بلغتم بهذه البلاد الغاية من التنويه والحظ الشريف النبيه لكن أراد الله سبحانه أن يكون لمحاسنكم في تلك البلاد المعظمة ظهور وتحدث بعد الأمور أمور وبكل اعتبار فالزمان بكم - حيث كنتممباه والمحامد مجموعة لكم جمع تناه‏.‏ولما وقف على مكتوبكم إلي مولانا السلطان أبو عبد الله أطال الثناء على مقاصدكم وتحقق صحيح ودادكم وجميل اعتقادكم وعمر مجلسه يومئذ بالثناء عليكم والشكر لما لديكم‏.‏ثم ختم الكتاب بالسلام من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن مؤرخاً بصفر تسعين‏.‏وفي طيه مدرجة بخطه وقد قصر فيها عن الإجادة نصها‏:‏ سيدي رضي الله عنكم وأرضاكم وأظفر يمناكم بنوائب مناكم‏.‏أعتذر لكم عن الكتاب المدرج هذا طيه بغير خطي فإني في الوقت بحال مرض من عيني ولكم العافية الواقية فيسعني سمحكم وربما أن لديكم تشوقاً لما نزل في هذه المدة بالمغرب من الهرج حاطه الله وأمن جميع بلاد المسلمين‏.‏والموجب أن الحصة الموجهة لتلك البلاد في خدمة أميرهم الواثق ظهر له ولوزيره ومن ساعده على رأيه إمساكها رهينة وجعلهم في القيود إلى أن يقع الخروج لهم عن مدينة سبتة‏.‏وكان القائد على هذه الحصة العلج المسمى مهند وصاحبه الفتى المدعو نصر الله‏.‏وكثر التردد في القضية إلى أن أبرز القدر توجيه السلطان أبي العباس - تولاه الله - صحبة فرج بن رضوان بحصة ثانية وكان ما كان حسبما تلقيتم من الركبان هذا ما وسع الوقت من الكلام‏.‏ثم دعا وختم‏.‏وإنما كتبت هذه الأخبار وإن كانت خارجة عن غرض هذا التعريف بالمؤلف لأن فيها تحقيقاً لهذه الواقعات وهي مذكورة في أماكنها من الكتاب فربما يحتاج الناظر إلى تحقيقها من هذا الموضع‏.‏وبعد قضاء الفريضة رجعت إلى القاهرة محفوفاً بستر الله ولطفه ولقيت السلطان فتلقاني - أيده الله - بمعهود مبرته وعنايته‏.‏وكانت فتنة الناصري بعدها سنة إحدى وتسعين‏.‏ولحقت السلطان النكبة التي محصه الله فيها وأقاله وجعل إلى الخير فيها عاقبته ومآله ثم أعاده إلى كرسيه للنظر في مصالح عباده فطوقه القلادة التي ألبسه كما كانت فأعاد لي ما كان أجراه من نعمته ولزمت كسر البيت ممتعاً بالعافية لابساً برد العزلة عاكفاً على قراءة العلم وتدريسه لهذا العهد فاتح سبع وتسعين‏.‏

  ولاية الدروس والخوانق

أهل هذه الدولة التركية بمصر والشام معنيون - على القدم منذ عهد مواليهم ملوك بني أيوب - بإنشاء المدارس لتدريس العلم والخوانق لإقامة رسوم الفقراء في التخلق بآداب الصوفية السنية في مطارحة الأذكار ونوافل الصلوات‏.‏أخذوا ذلك عمن قبلهم من الدوال الخلافية فيختطون مبانيها ويقفون الأراضي المغلة للإنفاق منها على طلبة العلم ومتدربي الفقراء‏.‏وإن استفضل الريع شيئاً عن ذلك جعلوه في أعقابهم خوفاً على الذرية الضعاف من العيلة‏.‏واقتدى بسنتهم في ذلك من تحت أيديهم من أهل الرياسة والثروة فكثرت لذلك المدارس والخوانق بمدينة القاهرة وأصبحت معاشاً للفقراء من الفقهاء والصوفية وكان ذلك من محاسن هذه الدولة التركية وآثارها الجميلة الخالدة‏.‏وكنت لأول قدومي على القاهرة وحصولي في كفالة السلطان شغرت مدرسة بمصر من إنشاء صلاح الدين بن أيوب وقفها على المالكية يتدارسون بها الفقه ووقف عليها أراضي من الفيوم تغل القمح فسميت لذلك القمحية كما وقف أخرى على الشافعية هنالك وتوفي مدرسها حينئذ فولاني السلطان تدريسها وأعقبه بولاية قضاء المالكية سنة ست وثمانين كما ذكرت ذلك من قبل وحضرني يوم جلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويها بذكري وعناية من السلطان ومنهم بجانبي وخطبت يوم جلوسي في ذلك الحفل بخطبة ألممت فيها بذكر القوم بما يناسبهم ويوفي حقهم ووصفت المقام وكان نصها‏:‏ الحمد لله الذي بدأ بالنعم قبل سؤالها ووفق من هداه للشكر على منالها وجعل جزاء المحسنين في محبته ففازوا بعظيم نوالها‏.‏وعلم الإنسان الأسماء والبيان وما لم يعلم من أمثالها وميره بالعقل الذي فضله على أصناف الموجودات وأجيالها وهداه لقبول أمانة التكليف وحمل أثقالها‏.‏وخلق الجن والإنس للعبادة ففاز منهم بالسعادة من جد في امتثالها ويسر كلاً لما خلق له من هداية نفسه أو إضلالها وفرغ ربك من كل خلقها وخلقها وأرزاقها وآجالها‏.‏والصلاة على سيدنا ومولانا محمد نكتة الأكوان وجمالها والحجة البالغة لله علي كمالها الذي رقاه في أطوار الاصطفاء وآدم بين الطين والماء فجاء خاتم أنبيائها وأرسالها ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميز حرامها من حلالها ورضي لنا الإسلام ديناً فأتم علينا النعمة بإكمالها‏.‏والرضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها وليوث ملاحمه المشتهرة وأبطالها‏.‏وخير أمة أخرجت للناس في توسطها واعتدالها و ظهور الهداية والاستقامة في أحوالها صفى الله عليه وعليهم صلاة تتصل الخيرات باتصالها وتنال البركات من خلالها‏.‏أما بعد فإن الله سبحانه لما أقر هذه الملة الإسلامية في نصابها وشفاها من أدوائها وأوصابها وأورث الأرض عباده الصالحين من أيدي غصابها بعد أن باهلت فارس بتاجها وعصابها وخلت الروم إلى تماثيلها وأنصابها وجعل لها من العلماء حفطة وقواماً ونجوماً يهتدي بها التابع وأعلاماً يقربونها للدراية تبياناً وإفهاماً ويوسعونها بالتدوين ترتيباً وإحكاماً وتهذيباً لأصولها وفروعها ونظاماً‏.‏ثم اختار لها الملوك يرفعون عمدها ويقيمون صغاها بإقامة السياسة وأودها ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها فكان لها بالعلماء الظهور والانتشار والذكر السيار والبركات المخلدة والآثار ولها بالملوك العز والفخار والصولة التي يلين لها الجبار ويذل لعزة المؤمنين بها الكفار وتجلل وجوه الشرك معها الصغار ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار والدول تحتفل والأمصار والليل يختلف والنهار حتى أظلت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من الترك الماحين بأنوار أسنتهم ظلم الضلالة والشك القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك المصيبين بسهامهم النافذة ثغر الجهالة والشرك المظهرين سر قوله‏:‏ ‏"‏ لا تزال طائفة من أمتي ‏"‏ فيما يتناولونه من الأخذ والترك ففسحوا خطة الإسلام وقاموا بالدعوة الخلافية أحسن القيام وبثوها في أقصى التخوم من الحجاز والشام واعتمدوا في خدمة الحرمين الشريفين ما فضلوا به ملوك الأنام‏.‏واقتعدوا كرسي مصر الذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام على قدم الأيام فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران وتجاوبت فيها المدارس بترجيع المثاني والقرآن وغمرت المساجد بالصلوات والأذان تكاثر عدد الحصى والشهبان‏.‏وقامت المآذن على قدم الاستغفار والسبحان معلنة بشهار الإيمان وازدان جوها بالقصر والإيوان فالإيوان‏.‏ ونظم دستها بالعزيز والظاهر والأمير والسلطان‏.‏فما شئت من ملك يخفق العز في أعلامه وتتوقد في ليل المواكب نيران الكواكب من أسنته وسهامه ومن أسرة للعلماء نتناول العلم بوعد الصادق ولو تعلق بأعنان السماء وتنير سراجه في جوانب الشبه المدلهمة الظلماء ومن قضاة يباهون بالعلم والسؤدد عند الانتماء ويشتملون الفضائل والمناقب اشتمال الصفاء ويفصلون الخصومات برأي يفرق بين اللبن والماء‏.‏ولا كدولة السلطان الظاهر والعزيز القاهر يعسوب العصائب والجماهر ومطلع أنواع العز الباهر ومصرف الكتائب تزري بالبحر الزاخر وتقوم بالحجة للقسي على الأهلة في المفاخر سيف الله المنتضى على العدو الكافر ورحمته المتكفلة للعباد باللطف الساتر رب التيجان والأسرة والمنابر والأواوين العالية والقصور الأزاهر والملك المؤيد بالبيض البواتر والرماح الشواجر والأقلام المرتضعة أحلاف العز في مهود المحابر والفيض الرباني الذي فاق قدرة القادر وسبقت به العناية للأواخر‏.‏سيد الملوك والسلاطين كافل أمير المؤمنين أبو سعيد أمده الله بالنصر المصاحب والسعد المؤازر وعرفه آثار عنايته في الموارد والمصادر وأراه حسن العاقبة في الأولى وسرور المنقلب في الآخرة فإنه لما تناول الأمر بعزائمه وعزمه وآوى الملك إلى كنفه العزيز وحزمه أصاب شاكلة الرأي عندما سدد من سهمه وأوقع الرعايا في ظل من أمنه وعدل من حكمه وقسم البأس والجود بين حربه وسلمه ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها وشد بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها من بين مصرف لعنانها متقدم القدم على أعيانها في بساط إيوانها ورب مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها ولا يذهب الصواب عن مكانها ومنفذ أحكام يشرق الحق في بيانها ويضوع العدل من أردانها ونجي خلوة في المهم الأعظم من شأنها وصاحب قلم يفضي بالأسرار إلى الأسل الجرار فيشفي الغليل بإعلانها‏.‏ حفظ الله جميعهم وشمل بالسعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم‏.‏ولما سبحت في اللج الأزرق وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق حيث نهر النهار ينصب من صفحه المشرق وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق وينابيع العلوم والفضائل تمد وشلنا من فراته المغدق أولوني عناية وتشريفاً وغمروني إحساناً ومعروفاً وأوسعوا بهمتي إيضاحاً ونكرتي تعريفاً ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف من حسنات السلطان صلاح الدين أيوب ملك الجلاد والجهاد وماحي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد ومطهر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النواقيس والصلبان فيه بمكان العقود من الأجياد‏.‏وصاحب الأعمال المتقبلة يسعى نورها بين يديه في يوم التناد فأقامني السلطان - أيده الله - لتدريس العلم بهذا المكان لا تقدما على الأعيان ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشان وإني موقن بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء أن يلمحوا بعين الارتضاء ويتغمدوا بالصفح والاغضاء والبضاعة بينهم مزجاة والاعتراف من اللوم - إن شاء الله - منجاة والحسنى من الإخوان مرتجاة‏.‏والله تعالى يرفع لمولانا السلطان في مدارج القبول أعماله ويبلغه في الدارين آماله ويجعل للحسنى والمقر الأسنى منقلبه ومآله ويديم على السادة الأمراء نعمته ويحفظ على المسلمين بانتظام الشمل دولتهم ودولته ويمد قضاة المسلمين وحكامهم بالعون والتسديد ويمتعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد بمنه وكرمه‏.‏وانفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار وتناجت النفوس بالأهلية للمناصب وأقمت على الاشتعال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه فتفاديت من ذلك وأبى إلا إمضاءه‏.‏وخلع علي وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكيم في المدرسة الصالحية في رجب ست وثمانين فقمت في ذلك المقام المحمود ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق وتحري المعدلة حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله ووقع من شغب أهل الباطل والمراء ما تقدم ذكره‏.‏وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس فمنعهم سلطان تونس من اللحاق بي اغتباطاً بمكاني فرغبت من السلطان أن يشفع عنده في شأنهم فأجاب وكتب إليه بالشفاعة فركبوا البحر من تونس في السفين فما هو إلا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندرية فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه وما فيه وذهب الموجود والمولود فعظم الأسف واختلط الفكر وأعفاني السلطان من هذه الوظيفة وأراحني وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريساً وتأليفاً‏.‏ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته بين القصرين وجعل فيها مدافن أهله وعين لي فيها تدريس المالكية فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم مفتتح التدريس على عادتهم في ذلك ونصها‏:‏ الحمد لله الذي من على عباده بنعمة خلقه وإيجاده وصرفهم في أطوار استعباده بين قدره ومراده وعرفهم أسرار توحيده في مظاهر وجوده وآثار لطفه في وقائع عباده وعرضهم على أمانة التكاليف ليبلوهم بصادق وعده وإبعاده ويسر كلاً لما خلق له من هدايته أو إضلاله وغيه أو رشاده واستخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النجدين لصلاحه أو فساده وعلمه ما لم يكن يعلم من مدارك سمعه وبصره والبيان عما في فؤاده وجعل منهم أنبياء وملوكاً يجاهدون في الله حق جهاده ويثابرون على مرضاته في اعتمال العدل واعتماده ورفع البيوت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد سيد البشر من نسل آدم وأولاده لا‏.‏ بل سيد الثقلين في العالم من إنسه وجنه وأرواحه و أجساده لا‏.‏بل سيد الملائكة والنبيئين الذي ختم الله كمالهم بكماله وآمادهم بآماده الذي شرف به الأكوان فأضاءت أرجاء العالم لنور ولاده وفصل له الذكر الحكيم تفصيلاً كذلك ليثبت من فؤاده وألقى على قلبه الروح الأمين بتنزيل رب العالمين ليكون من المنذرين لعباده فدعا إلى الله على بصيرة بصادق جداله وجلاده وأنزل عليه النصر العزيز وكانت ملائكة السماء من إمداده حتى ظهر نور الله على رغم من رغم‏.‏بإطفائه وإخماده وكمل الدين الحنيف فلا تخشى والحمد لله غائلة انقطاعه ولا نفاده ثم أعد له من الكرامات ما أعد في معاده وفضله بالمقام المحمود في عرصات القيامة بين أشهاده وجعل له الشفاعة فيمن انتظم في أمته واعتصم بمقاده‏.‏والرضى عن آله وأصحابه غيوص رحمته وليوث إنجاده من ذوي رحمه الطاهرة وأهل وداده المتزودين بالتقوى من خير أزواده والمراغمين بسيوفهم من جاهر بمكابرة الحق وعناده وأراد في الدين بظلمه وإلحاده حتى استقام الميسم في دين الله وبلاده وانتظمت دعوة الإسلام أقطار العالم وشعوب الأنام من عربه وعجمه وفارسه ورومه وتركه وأكراده‏.‏صلى الله عليه وعليهم صلاة تؤذن باتصال الخير واعتياده وتؤهل لاقتناء الثواب وزياده وسلم كثيراً وعن الأئمة الأربعة علماء السنة المتبعة والفئة المجتباة المصطنعة وعن إمامنا من بينهم الذي حمل الشريعة وبينها وحرر مقاصدها الشريفة وعينها وتعرض في الآفاق منها والمطالع بين شهبها اللوامع فزينها‏.‏نكتة الهداية إذا حقق مناطها وشرط التحصيل والدراية إذا روعيت أشراطها وقصد الركاب إذا ضربت في طلب العلم آباطها عالم المدينة وإمام هذه الأمة الأمينة ومقبس أنوار النبوة من مشكاتها المبينة الإمام مالك بن أنس‏.‏ألحقه الله برضوانه وعرفنا بركة الاقتداء بهدية وعرفانه وعن سلف المؤمنين والمهتدين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين‏.‏أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه ورحمته ويكفلهم بفضله ونعمته وييسرهم لأسباب السعادة بآداب دينه وشرعته ويحملهم في العناية بأمورهم والرعاية لجمهورهم على مناهج سنته ولطائف حكمته‏.‏ولذلك اختار لهم الملوك الذين جبلهم على العدل وفطرته وهداهم إلى التمسك بكلمته‏.‏ثم فضلهم بما خولهم من سعة الرزق وبسطته واشتقاق التمكين في الأرض من قدرته فتسابقوا بالخيرات إلى جزائه ومثوبته وذهبوا بالدرجات العلى في وفور الأجر ومزيته‏.‏وإن مولانا السلطان الملك الظاهر العزيز القاهر العادل الطاهر القائم بأمور الإسلام عندما أعيا حملها الأكتاد وقطب دائرة الملك الذي أطلع الله من حاشيته الأبدال وأنبت الأوتاد ومنفق أسواق العز بما بذل فيها من جميل نظره المدخور والعتاد رحمة الله الكافلة للخلق ويداه المبسوطتان بالأجل والرزق وظله الواقي للعباد بما اكتنفهم من العدل والحق قاصم الجبابرة والمعفي على آثار الأعاظم من القياصرة وذوي التيجان من التبابعة والأكاسرة أولي الأقيال والأساورة وحائز قصب السبق في الملوك عند المناضلة والمفاخرة ومفوض الأمور بإخلاصه إلى ولي الدنيا والآخرة مؤيد كلمة الموحدين ورافع دعائم الدين وظهير خلافة المؤمنين سلطان المسلمين أبو سعيد‏.‏ صدق الله فيما يقتفي من الله ظنونه وجعل النصر ظهيره كما جعل السعد قرينه والعز خدينه وكان وليه على القيام بأمور المسلمين ومعينه وبلغ الأمة في اتصال أيامه ودوام سلطانه ما يرجونه من الله ويؤملونه‏.‏لما قلده الله هذا الأمر الذي استوى له على كرسي الملك وانتظمت عقود الدول في لبات الأيام وكانت دولته واسطة السلك وجمع له الدين بولاية الحرمين والدنيا بسلطان الترك‏.‏وأجرى له أنهار مصر من الماء والمال فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ والترك‏.‏وجمع عليه قلوب العباد‏.‏فشهد سرها بمحبه الله له شهادة خالصة من الريب بريئة من الشك‏.‏حتى استولى من العز والملك على المقام الذي رضيه وحمده‏.‏ثم تاقت نفسه إلى ما عند الله فصرف قصده إليه واعتمده وسارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنة لا يسأل عليها أجراً ولا يكدرها بالمنة وأحسن رعاية الدين والملك تشهد بها الإنس والجنة لا بل النسم والأجنة‏.‏ثم آوى الخلق إلى عدله تصديقاً بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى ظلاله المستجنة ونافس في اتخاذ المدارس والربط لتعليم الكتاب والسنة وبناء المساجد المقدسة يبني له بها الله البيوت في الجنة والله لا يضيع عمل عامل فيما أظهره أو أكنه‏.‏وإن ما أنتجته قرائح همته وعنايته وأطلعته آفاق عدله وهدايته ووضحت شواهده على بعد مداه في الفخر وغايته ونجح مقاصده في الدين وسعايته هذا المصنع الشريف والهيكل السامي المنيف الذي راق الكواكب حسنه وظرفه وأعجز الهمم البشرية ترتيبه ورصفه لا‏!‏ بل الكلم السحرية تمثيله ووصفه وشمخ بمطاولة السحب ومناولة الشهب مارنه العزيز وأنفه وازدهى بلبوس السعادة والقبول من الله عطفه إن فاخر بلاط الوليد كان له الفخار أو باهى القصر والإيوان شهد له المحراب والمنار أو ناظر صنعاء وغمدان قامت بحجته الآثار‏.‏إنما هو بهو ملؤه دين وإسلام وقصر عليه تحية وسلام وفضاء رباني ينشأ في جوه للرحمة والسكينة ظلة وغمام وكوكب شرق يضاحك وجه الشمس منه ثغر بسام دفع إلى تشييد أركانه ورفع القواعد من بنيانه سيف دولته الذي أستله من قراب ملكه وانتضاه وسهمه الذي عجم عيدان كنانته فارتضاه وحسام أمره الذي صقل فرنده بالعز والعزم وأمضاه فارتضاه وحسام أمره الذي طالب غريم الأيام بالأمل العزيز المرام فاستوفى دينه واقتضاه الأمير الأعز الأعلى جهركس الخليلي أمير الماخورية باسطبله المنيع‏.‏حرسه الله من خطوب الأيام وقسم له من عناية السلطان أوفر الحظوظ والسهام فقام بالخطو الوساع لأمره المطاع وأغرى بها أيدي الاتقان والابداع‏.‏واختصها من أصناف الفعلة بالماهر الصناع يتناظرون في إجاده الأشكال منها والأوضاع ويتناولون الأعمال بالهندام إذا توارت عن قدرتهم بالامتناع فكان العبقري يفري الفري أو العفاريت قدمت من أماريت‏.‏وكأنما حشرت الجن والشياطين أو نشرت القهارمة من الحكماء الأول والأساطين جابوا لها الصخر بالأذواد لا بالواد واستنزلوا صم الأطواد على مطايا الأعواد ورفعوا سمكها إلى أقصى الآماد على بعيد المهوى من العماد‏.‏وغشوها من الوشي الأزهر المصاعف الصدف والمرمر ومائع اللجين الأبيض والذهب الأحمر بكل مسهم الحواشي حالي الأبراد وقدروه مساجد للصلوات والأذكار ومقاعد للسبحات بالعشي والإبكار ومجالس للتلاوة والاستغفار في الآصال والأسحار وزوايا للتخلي عن ملاحظة الأسماع والأبصار والتعرض للفتوح الربانية والأنوار ومدارس لقدح زناد الأفكار ونتاج المعارف الأبكار وصوغ اللجين والنضار في محك القرائح والأبصار‏.‏تتفجر ينابيع الحكمة في رياضه وبستانه وتتفتح أبواب الجنة من غرفه وإيوانه وتقتاد غر السوابق من العلوم والحقائق في طلق ميدانه ويصعد الكلم الطيب والعمل الصالح إلى الله من نواحي أركانه وتوفر الأجور لغاشيته محتسبة عند الله في ديوانه راجحة في ميزانه‏.‏ثم أختار لها من أئمة المذاهب الأربعة أعياناً ومن شيوخ الحقائق الصوفية فرساناً تصفح لهم أهل مملكته إنساناً وأشاد بقدرهم عناية وإحساناً ودفعهم إلى وظائفه توسعاً في مذاهب الخير وافتناناً‏.‏وعهد إليهم برياضة المريدين وإفادة المستفيدين احتساباً لله وقرباناً وتقيلا لمذاهب الملوك من قومه وإستناناً ثم نظمني معهم تطولاً وامتناناً ونعمة عظمت موقعاً وجلت شأناً وأنا وإن كنت لقصور البضاعة متأخراً عن الجماعة ولقعود الهمة عيالاً على هؤلاء الأئمة فسمحهم يغطي ويلحق وبمواهب العفو والتجاوز يمنح ويتحف‏.‏وإنما هي رحمة من مولانا السلطان - أيده الله - خصت كما عمت ووسمت أغفال النكرة والإهمال وسمت وكملت بها مواهب عطفه وجبره وتمت وقد ينتظم المر مع المرجان وتلتبس العصائب بالتيجان وتراض المسومة العراب على مسابقة الهجان والكل في نظر مولانا السلطان وتصريفه والأهلية بتأهيله والمعرفة بتعريفه وقوام الحياة والآمال بلطائف إحسانه وصنوفه والله يوزعنا شكر معروفه ويوفقنا للوفاء بشرطه في هذا الوقف وتكليفه ويحمي حماه من غير الدهر وصروفه ويفيء على ممالك الإسلام ظلال أعلامه ورماحه وسيوفه ويريه قرة العين في نفسه وبنيه وحاشييه وذويه وخاصته ولفيفه بمن الله وفضله‏.‏ثم تعاون العداة عند أمير الماخورية القائم للسلطان بأمور مدرسته وأغروه بصدي عنها وقطع أسبابي من ولايتها ولم يمكن السلطان إلا إسعافه فأعرضت عن ذلك وشغلت بما أنا عليه من التدريس والتأليف‏.‏ثم خرجت عام تسعة وثمانين للحج واقتضيت إذن السلطان في ذلك فأسعف وزود هو وأمراؤه بما أوسع الحال وأرغده وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع ثم صعدت مع المحمل إلى مكة فقضيت الفرض عامئذ‏.‏وعدت في البحر فنزلت بساحل القصير ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد وركبت منها بحر النيل إلى مصر ولقيت السلطان وأخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة وأعادني إلى ما عهدت من كرامته وتفيؤ ظله‏.‏ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني إياها بدلا من مدرسته وجلست للتدريس فيها في محرم أحد وتسعين وقمت ذلك اليوم - على العادة - بخطبة نصها‏:‏ الحمد لله إجلالاً وإعظاماً واعترافاً بحقوق النعم والتزاماً واقتباساً للمزيد منها واغتناماً وشكراً على الذي أحسن وتماماً وسع كل شيء رحمة وإنعاماً وأقام على توحيده من أكوانه ووجوده آيات واضحة وأعلاماً وصرف الكائنات في قبضة قدرته ظهوراً وخفاء وإيجاداً وإعدماً وأعطى كل شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاماً وأودع مقدور قضائه في مسطور كتابه فلا يجد محيصاً عنه ولا مراماً‏.‏والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة الهامية غماماً والملحمة التي أراقت من الكفر نجيعاً وحطمت أصناماً والعروة الوثقى فاز من اتخذها عصاماً أول النبيئين رتبة وآخرهم ختاماً وسيدهم ليلة قاب قوسين إذ بات للملائكة والرسل إماماً وعلى آله وأصحابه الذين كانوا ركناً لدعوته وسناماً وحرباً على عدوه وسماماً وصلوا في مظاهرته جداً واعتزاماً وقطعوا في ذات الله وابتغاء مرضاته أنساباً وأرحاماً حتى ملأوا الأرض إيماناً وإسلاماً وأوسعوا الجاحد والمعاند تبكيتاً وإرغاماً فأصبح الدين بساماً ووجه الكفر والباطل عبوساً جهاماً‏.‏صلى الله عليه وعليهم ما عاقب ضياء ظلاماً صلاة ترجح القبول ميزاناً وتبوئ عند الله مقاماً‏.‏والرضى عن الأئمة الأربعة الهداة المتعة مصابيج الأمان ومفاتيح السنة الذين أحسنوا بالعلم قياماً وكانوا للمتقين إماماً‏.‏أما بعد فإن الله سبحانه تكفل لهذا الدين بالعلاء والظهور والعز الخالد على الظهور وانفساح خطته في آفاق المعمور فلم يزل دولة عظيمة الآثار غزيرة الأنصار بعيدة الصيت عالية المقدار جامعة - بمحاسن آدابه وعزة جنابه - معاني الفخار منفقة بضائع علومه في الأقطار مفخرة ينابيعها كالبحار مطلعة كواكبها المنيرة في الآفاق أضوأ من النهار ولا كالدولة التي استأثرت بقبلة الإسلام ومنابره وفاخرت بحرمات الله وشعائره واعتمدت بركة الإيمان ويمن طائره في خدمة الحرمين الشريفين بالمتين من أسباب الدين وأواصره واعتملت في إقامة رسوم العلم ليكون من مفاخره وشاهداً بالكمال لأوله وآخره‏.‏وإن مولانا السلطان الملك الطاهر العزيز القاهر شرف الأوائل والأواخر ورافع لواء المعالي والمفاخر رب التيجان والأسرة والمنابر والمجلي في ميدان السابقين من الملوك الأكابر في الزمن الغابر حامل الأمة بنظره الرشيد ورأيه الظافر وكافل الرعايا في ظله المديد وعدله الوافر ومطلع أنوار العز والسعادة من أفقه السافر واسطة السلك من هذا النظام والتاج المحلى في مفارق الدول والأيام سيد الملوك والسلاطين بركة الإسلام والمسلمين كافل أمير المؤمنين أبو سعيد‏.‏أعلى الله مقامه وكافأ عن الأمة إحسانه الجزيل وإنعامه وأطال في السعادة والخيرات المبدأة المعادة لياليه وأيامه لما أوسع الدين والملك نظراً جميلاً من عنايته وأنام الخلق في حجر كفالته ومهاد كفايته وأيقظ لتفقد الأمور وصلاح الخاصة والجمهور عين كلاءته كما قلده الله رعايته وأقام حكام الشريعة والسياسة يوسعون نطاق الحق إلى غايته ويطلعون وجه العدل سافراً عن آيته‏.‏ونصب في دست النيابة من وثق بعدله وسياسته ورضي الدين بحسن إيالته وأمنه على سلطانه ودولته وهو الوفي - والحمد لله - بأمانته ثم صرف نظره إلى بيوت الله معنى بإنشائها وتأسيسها ويعمل النظر الجميل في إشادتها وتقديسها ويقرض الله القرض الحسن في وقفها وتحبيسها وينصب فيها لبث العلم من يؤهله لوظائفها ودروسها فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر لبوسها حتى زهت الدولة بملكها ومصرها وفاخرت الأنام بزمانها الزاهر وعصرها‏.‏وخضعت الأواوين لإيوانها العالي وقصرها فابتهج العالم سروراً بمكانها واهتزت الأكوان للمفاخرة بشأنها وتكفل الرحمن لمن اعتز به الإيمان وصلح على يده الزمان بوفور المثوبة ورجحانها‏.‏وكان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش من سلف أمراء الترك خفف الله حسابه وثقل في الميزان - يوم يعرض على الرحمن - كتابه وأعظم جزاءه في هذه الصدقة الجارية وثوابه عناية جدد لي لباسها وإيثاراً بالنعمة التي صححت قياسها وعرفت منه أنواعها وأجناسها فامتثلت المرسوم وانطلقت أقيم الرسوم وأشكر من الله وسلطانه الحظ المقسوم‏.‏وأنا مع هذا معترف بالقصور بين أهل العصور مستعيذ بالله وبركة هؤلاء الحضور السادة الصدور أن يجمح بي مركب الغرور أو يلج شيطان الدعوى والزور في شيء من الأمور‏.‏والله تعالى ينفع مولانا السلطان بصالح أعماله ويعرفه الحسنى وزيادة الحظ الأسنى في عاقبته ومآله ويريه في سلطانه وبنيه وحاشيته وذويه قرة عينه ورضى آماله ويديم على السادة الأمراء ما خولهم من رضاه وإقباله ويحفظ المسلمين في هذا الأمر السعيد بدوامه واتصاله ويسدد قضاتهم وحكامهم لاعتماد الحق واعتماله بمن الله وإفضاله‏.‏وقد رأيت أن أقرر للقراءة في هذا الدرس كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه فإنه من أصول السنن وأمهات الحديث وهو مع ذلك أصل مذهبنا الذي عليه مدار مسائله ومناط أحكامه وإلى آثاره يرجع الكثير من فقهه‏.‏فلنفتتح الكلام بالتعريف بمؤلفه - رضي الله عنه - ومكانه من الأمانة والديانة ومنزلة كتابه الموطأ من كتب الحديث‏.‏ثم نذكر الروايات والطرق التي وقعت في هذا الكتاب وكيف اقتصر الناس منها على رواية يحيى بن يحيى ونذكر أسانيدي فيها ثم نرجع إلى الكلام على متن الكتاب‏.‏

أما الإمام مالك - رضي الله عنه - فهو إمام دار الهجرة وشيخ أهل الحجاز في الحديث والفقه غير منازع والمقلد المتبوع لأهل الأمصار وخصوصاً أهل المغرب‏.‏قال البخاري‏:‏ مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي‏.‏كنيته أبو عبد الله حليف عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي ابن أخي طلحة بن عبيد الله‏.‏كان إماماً روى عنه يحيى بن سعيد‏.‏انتهى كلام البخاري‏.‏وجده أبو عامر بن الحرث بن عثمان ويقال‏:‏ غيمان بغين معجمة مفتوحة وياء تحتانية ساكنة ابن جثيل بجيم مضمومة وثاء مثلثة مفتوحة وياء تحتانية ساكنة ويقال حثيل أو خثيل بحاء مضمومة مهملة أو معجمة عوض الجيم ويقال حسل بحاء مهملة مكسورة وسين مهملة ساكنة ابن عمرو بن الحرث وهو ذو أصبح‏.‏وذو أصبح بطن من حمير وهم إخوة يحصب ونسبهم فهو حميري صليبة وقرشي حلفاً‏.‏ولد سنة إحدى وتسعين - فيما قال ابن بكير وأربع وتسعين - فيما قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ونشأ بالمدينة وتفقه بها‏.‏أخذ عن ربيعة الرأي وابن شهاب وعن عمه أبي سهيل وعن جماعة ممن عاصرهم من التابعين وتابعي التابعين وجلس للفتيا والحديث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شاباً يناهز العشرين وأقام مفتياً بالمدينة ستين سنة‏.‏وأخذ عنه الجم الغفير من العلماء الأعلام وارتحل إليه من الأمصار من لا يحصى كثرة وأعظم من أخذ عنه الإمام محمد بن إدريس الشافعي وابن وهب والأوزاعي وسفيان الثوري وابن المبارك في أمثال لهم وأنظار‏.‏وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة باتفاق من الناقلين لوفاته وقال الواقدي‏:‏ عاش مالك تسعين سنة وقال سحنون عن ابن نافع‏:‏ توفي مالك ابن سبع وثمانين سنة ولم يختلف أهل زمانه في أمانته وإتقانه وحفظه وتثبته وورعه حتى لقد قال سفيان بن عيينة‏:‏ كنا نرى في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة ‏"‏ أنه مالك بن أنس‏.‏وقال الشافعي‏:‏ إذا جاء الأثر فمالك النجم وقال‏:‏ إذا جاءك الحديث فمالك أمير المؤمنين‏.‏وقد ألف الناس فضائله كتباً وشأنه مشهور‏.‏وأما الذي بعثه على تصنيف الموطأ - فيما نقل أبو عمر بن عبد البر - فهو أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عمل كتاباً على مثال الموطأ ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة ولم يذكر فيه شيئاً من الحديث فأتي به مالك ووقف عليه وأعجبه وقال‏:‏ ما أحسن ما عمل هذا ولو كنت أنا الذي عملت لبدأت بالآثار ثم شددت ذلك بالكلام‏.‏وقال غيره‏:‏ حج أبو جعفر المنصور ولقيه مالك بالمدينة فأكرمه وفاوضه‏.‏وكان فيما فاوضه‏:‏ يا أبا عبد الله لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك وقد شغلتني الخلافة فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة‏.‏قال مالك‏:‏ فلقد علمني التأليف فكانت هذه وأمثالها من البواعث لمالك على تصنيف هذا الكتاب فصنفه وسماه الموطأ أي المسهل‏.‏قال الجوهري وطؤ يوطؤ وطاءة أي صار وطيئاً ووطأته توطئة ولا يقال وطيته‏.‏ولما شغل بتصنيفه أخذ الناس بالمدينة يومئذ في تصنيف موطآت فقال لمالك أصحابه‏:‏ نراك شغلت نفسك بأمر قد شركك فيه الناس وأتي ببعضها فنظر فيه ثم طرحه من يده وقال‏:‏ ليعلمن أن هذا لا يرتفع منه إلا ما أريد به وجه الله فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما سمع لشيء منها بعد ذلك ذكر وأقبل مالك على تهذيب كتابه وتوطئته فيقال إنه أكمله في أربعين سنة‏.‏وتلقت الأمة هذا الكتاب بالقبول في مشارق الأرض ومغاربها ومن لدن صنف إلى هلم‏.‏وطال ثناء العلماء في كل عصر عليه ولم يختلف في ذلك اثنان‏.‏قال الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي‏:‏ ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله أنفع وفي رواية أصح وفي رواية أكثر صواباً من موطأ مالك‏.‏وقال يونس بن عبد الأعلى‏:‏ ما رأيت كتاباً ألف في العلم أكثر صواباً من موطأ مالك‏.‏وأما الطرق والروايات التي وقعت في هذا الكتاب فإنه كتبه عن مالك جماعة نسب الموطأ إليهم بتلك الرواية وقيل موطأ فلان لرواية عنه فمنها موطأ الإمام محمد بن إدريس الشافعي ومنها موطأ عبد الله بن وهب ومنها موطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي ومنها موطأ مطرف بن عبد الله اليساري نسبة إلى سليمان بن يسار ومنها موطأ عبد الرحمن بن القاسم رواه عنه سحنون بن سعيد ومنها موطأ يحيى بن يحيى الأندلسي‏.‏رحل إلى مالك بن أنس من الأندلس وأخذ عنه الفقه والحديث ورجع بعلم كثير وحديث جم وكان فيما أخذ عنه الموطأ وأدخله الأندلس والمغرب فأكب الناس عليه واقتصروا على روايته دون ما سواها وعولوا على نسقها وترتيبها في شرحهم لكتاب الموطأ وتفاسيرهم ويشيرون إلى الرويات الأخرى إذا عرضت في أمكنتها فهجرت الروايات الأخرى وسائر تلك الطرق ودرست تلك الموطآت إلا موطأ يحيى ابن يحيى فبروايته أخذ الناس في هذا الكتاب لهذا العهد شرقاً وغرباً‏.‏وأما سندي في هذا الكتاب المتصل بيحيى بن فعلى ما أصفه‏:‏ حدثني به جماعة من شيوخنا رحمة الله عليهم‏.‏منهم إمام المالكية قاضي الجماعة بتونس وشيخ الفتيا بها أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري سمعته عليه بمنزله بتونس من أوله إلى آخره‏.‏ومنهم شيخ المسندين بتونس الرحالة أبو عبد الله محمد بن جابر ابن سلطان القيسي الوادي آشي سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره‏.‏ومنهم شيخ المحدثين بالأندلس وكبير القضاة بها أبو البركات محمد بن محمد بن محمد - ثلاثة من المحدثين - بن إبراهيم بن الحاج البلفيقي لقيته بفاس سنة ست وخمسين من هذه المائة الثامنة مقدمه من السفارة بين ملك الأندلس وملك المغرب‏.‏وحضرت مجلسه بجامع القرويين من فاس فسمعت عليه بعضاً من هذا الكتاب وأجازني بسائره‏.‏ثم لقيته لقاءة أخرى سنة اثنتين وستين استقدمه ملك المغرب السلطان أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن للأخذ عنه وكنت أنا القارئ فيما يأخذه عنه ومنهم شيخ أهل المغرب لعصره في العلوم العقلية ومفيد جماعتهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي قرأت عليه بعضه وأجازني بسائره قالوا كلهم‏:‏ حدثنا الشيخ المعمر أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي عن القاضي أبي القاسم أحمد بن يزيد بن بقي عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الحق الخزرجي‏.‏وحدثني به أيضاً شيخنا أبو البركات عن إمام المالكية ببجاية ناصر الدين أبي علي منصور بن أحمد بن عبد الحق المشدالي عن الإمام شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي عن أبي الحسن علي بن موسى بن النقرات عن أبي الحسن علي بن أحمد الكناني‏.‏قال الخزرجي والكناني‏:‏ حدثنا أبو عبد الله محمد بن فرج مولى ابن الطلاع عن القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث بن الصفار قاضي الجماعة بقرطبة‏.‏وحدثني به أيضاً شيخنا أبو عبد الله بن جابر عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز عن شيخه أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي عن القاضي أبي القاسم عبد الرحمن بن حبيش وأبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون شارح كتاب الموطأ قال ابن زرقون‏:‏ حدثنا به أبو عبد الله الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد القيجاطي وقال ابن حبيش‏:‏ حدثنا به القاضي أبو عبد الله بن أصبغ ويونس بن محمد بن مغيث قالا‏:‏ قرأناه على أبي عبد الله محمد بن الطلاع‏.‏وقال ابن حبيش أيضاً‏:‏ حدثنا به أبو القاسم أحمد بن محمد ورد عن القاضي أبي عبد الله محمد ابن خلف بن المرابط عن المقرئ أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الطلمنكي قال القاضي أبو الوليد بن مغيث والقيجاطي والطلمنكي‏:‏ حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى عن عم أبيه أبي مروان عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى‏.‏وقال الطلمنكي‏:‏ حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن حدير البزار قال حدثنا أبو محمد قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن وضاح قال حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك إلا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف أولها خروج المعتكف إلى العيد فإن يحيى شك في سماعها عن مالك فسمعها من زياد بن عبد الرحمن الملقب شبطون عن مالك‏.‏ولي في هذا الكتاب طرق أخرى لم يحضرني الآن اتصال سندي فيها‏.‏فمنها عن شيخنا أبي محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي كاتب السلطان أبي الحسن لقيته بتونس عند استيلاء السلطان عليها وهو في جملته سنة ثمان وأربعين وحضرت مجلسه وأخذت عنه كثيراً وسمعت عليه بعض الموطأ وأجازني بالاجاز العامة وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير وعن شيخه الأستاذ أبي إسحاق الغافقي وعن أبي القاسم القبتوري وجماعة من مشيخة أهل سبتة ويتصل سنده فيه بالقاضي عياضن وأبي العباس العزفي صاحب كتاب ومنها عن شيخنا أبي عبد الله الكوسي خطيب الجامع الأعظم بغرناطة سمعت عليه بعضه وأجازني بسائره وهو يرويه عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير عن القاضي أبي عبد الله بن بكار وجماعة من مشيخة أهل الأندلس ويتصل سنده فيه بالقاضي أبي الوليد الباجي والحافظ أبي عمر بن عبد البر بسندهما‏.‏ومنها عن شيخنا المكتب أبي عبد الله محمد بن سعد بن برال الأنصاري شيخ القراءة بتونس ومعلمي كتاب الله قرأت عليه القرآن العظيم بالقراءات السبع وعرضت عليه قصيدتي الشاطبي في القراءة وفي الرسم وعرضت عليه كتاب التقصي لابن عبد البر وغير ذلك وأجازني بالإجازة العامة وفي هذه بالإجازة الخاصة وهو يروي هذا الكتاب عن القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن الغماز وعن شيخه أبي العباس أحمد بن موسى البطرني بسندهما‏.‏ومنها عن شيخنا الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصفار المراكشي شيخ القراءات بالمغرب سمعت عليه بعض هذا الكتاب بمجلس السلطان أبي عثمان ملك المغرب وهو يسمعه إياه وأجازني بسائره وهو يرويه عن شيخه محدث المغرب أبي عبد الله محمد بن رشيد الفهري السبتي عن مشيخة أهل سبتة وأهل الأندلس حسبما ذلك مذكور في كتب رواياتهم وطرق أسانيدهم إلا أنها لم تحضرني الآن وفيما ذكرناه كفاية والله يوفقنا أجمعين لطاعته وهذا حين وانفض ذلك المجلس وقد لاحظتني بالتجلة والوقار العيون واستشعرت أهليتي للمناصب القلوب وأخلص النجي في ذلك الخاصة والجمهور وأنا أنتاب مجلس السلطان في أكثر الأحيان لتأدية الواجب من التحية والمشافهة بالدعاء إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية فأبعده وأخره عن خطة القصاء في رجب ست وثمانين وسبعمائة ودعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه فتفاديت من ذلك وأبى إلا إمضاءه وخلع علي وبعث الأمراء معي إلى مقعد الحكم بمدرسة القضاء فقمت في ذلك المقام المحمود ووفيت عهد الله وعهده في إقامة رسوم الحق وتحري المعدلة حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله ووقع في ذلك ما تقدم ذكره وكثر شغب أهل الباطل والمراء فأعفاني السلطان منها لحول من يوم الولاية وكان تقدمها وصول الخبر بغرق السفين الواصل من تونس إلى الإسكندرية وتلف الموجود والمولود وعظم الأسف وحسن العزاء والله قادر على ما يشاء‏.‏ثم خرجت عام تسعة وثمانين لقضاء الفرض وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع ورافقت المحمل إلى مكة فقضيت الحج عامئذ وعدت إلى مصر في البحر كما سافرت أولاً‏.‏وشغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني السلطان إياها بدلاً من مدرسته في محرم أحد وتسعين ومضيت على حالي من الانقباض والتدريس والتأليف حتى ولاني خانقاه ولاية خانقاه بيبرس والعزل منها لما رجعت من قضاء الفرض سنة تسعين ومضيت على حالي من التدريس والتأليف وتعاهد السلطان باللقاء والتحية والدعاء وهو ينظر إلي بعين الشفقة ويحسن المواعيد‏.‏وكانت بالقاهرة خانقاه شيدها السلطان بيبرس ثامن ملوك الترك الذي استبد على الناصر محمد بن قلاوون هو ورفيقه سلار وأنف الناصر من استبدادهما وخرج للصيد فلما حاذى الكرك امتنع به وتركهم وشأنهم فجلس بيبرس على التخت مكانه وكاتب الناصر أمراء الشام من مماليك أبيه واستدعوه للقيام معه وزحف بهم إلى مصر وعاد إلى سلطانه وقتل بيبرس وسلار سنة ثمان وسبعمائة‏.‏وشيد بيبرس هذا أيام سلطانه داخل باب النصر من أعظم المصانع وأحفلها وأوفرها ريعاً وأكثرها أوقافاً وعين مشيختها ونظرها لمن يستعد له بشرطه في وقفه فكان رزق النظر فيها والمشيخة واسعاً لمن يتولاه وكان ناظرها يومئذ شرف الدين الأشقر إمام السلطان الظاهر‏.‏فتوفي عند منصرفي من قضاء الفرض فولاني السلطان مكانه توسعة علي وإحساناً إلي وأقمت على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري‏.‏فتنة الناصري وسياقه الخبر عنها بعد تقديم كلام في أحوال الدول يليق بهذا الموضع ويطلعك على أسرار في تنقل أحوال الدول بالتدريج إلى الضخامة والاستيلاء ثم إلى الضعف والإضمحلال والله بالغ أمره وذلك أن الدول الكلية وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحداً بعد واحد في مده طويلة قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلبهم فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم وغلب مستحقين آخرين ينزعونه من أيديها بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى يفضون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرجولة والكثرة في العصابة أو القلة‏:‏ وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس والإقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة وعدم الثروة من قبل‏.‏ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها ويزين حب الشهوات للاقتدار عليها فيعظم الترف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك وسائر الأحوال ويتزايد شيئاً فشيئاً بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ما تكون ويقصر الدخل عن الخرج وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم ويحصل ذلك لكل أحد ممن تحت أيديهم لأن الناس تبع لملوكهم ودولتهم ويراجع كل أحد نظره فيما فيه من ذلك ثم إن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها‏.‏ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة ويحملهم على الإقلاع عن الترف ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك فيستولي على الدولة ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع وهو أحق الناس به وأقربهم إليه فيصير الملك له وفي عشيره وتصير كأنها دولة أخرى تمر عليها الأوقات‏.‏ ويقع فيها ما وقع في الأولى فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها وتخرج عن للقوم الأولين أجمع‏.‏ وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب أو الولاء‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏وكان مبدأ هذه الدولة التركية أن بني أيوب لما ملكوا مصر والشام كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقل بها كبيرهم صلاح الدين وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل وكان قليل العصابة إنما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هذان وهم قليلون وإنما كثر منهم جماعة المسلمين بهمة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه فعظمت عصابته بالمسلمين وأسمع داعيه ونصر الله الدين على يده‏.‏وانتزع السواحل كلها من أيدي نصارى الفرنج حتى مسجد بيت المقدس فإنهم كانوا ملكوه وأفحشوا فيه بالقتل والسبي فأذهب الله هذه الوصمة على يد صلاح الدين وانقسم ملك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه‏.‏واستفحل أمرهم واقتسموا مدن الشام ومصر بينهم إلى أن جاء آخرهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر أخي صلاح الدين وأراد الاستكثار من العصابة لحماية الدولة وإقامة رسوم الملك وأن ذلك يحصل باتخاذ المماليك والإكثار منهم كما كان آخراً في الدولة العباسية ببغداد وأخذ التجار في جلبهم إليه فاشترى منهم أعداداً وأقام لتربيتهم أساتيذ معلمين لحرفة الجندية من الثقافة والرمي بعد تعليم الآداب الدينية والخلقية إلى أن اجتمع له منهم عدد جم يناهز الألف وكان مقيماً بأحواز دمياط في حماية البلاد من طوارق الفرنج المتغلبين على حصنها دمياط‏.‏وكان أبوه قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سماها المنصورة وبها توفي رحمه الله فكان نجم الدين نازلاً بها في فدافعة ساكني دمياط من الفرنج فأصابه هنالك حدث الموت وكان لبنه المعظم تورنشاه نائباً في حصن كيفا من ديار بكر وراء الفرات فاجتمع الجند على بيعته وبعثوا عنه وانتظروا‏.‏وتفطن الفرنج لشأنهم فهجموا عليهم واقتتلوا فنصر الله المسلمين وأسر ملك الفرنج ريد إفرنس فبعثوا به إلى مصر‏.‏وحبس بدار لقمان إلى أن فادوه بدمياط كما هو مذكور في أخبار بني أيوب‏.‏ونصبوا - للملك ولهذا اللقاء - زوجة الصالح أيوب واسمها شجرة الدر فكانت تحكم بين الجند وتكتب على المراسيم وركبت يوم لقاء الفرنج تحت الصناجق والجند محدقون بها حتى أعز الله دينه وأتم نصره‏.‏ثم وصل تورنشاه المعظم فأقاموه في خطة الملك مكان أبيه الصالح أيوب ووصل معه مماليك يدلون بمكانهم منه ولهم به اختصاص ومنه مكان وكان رؤساء الترك يومئذ القائمون بالدولة من عهد أبيه وجده‏.‏أقطاي الجمدار وأيبك التركماني وقلاوون الصالحي فأنفوا من تصرفات مماليك تورنشاه واستعلائهم بالحظ من السلطان وسخطوهم وسخطوه وأجمعوا قتله‏.‏فلما رحل إلى القاهرة اغتالوه في طريقه بفارسكو وقتلوه ونصبوا للأمر أيبك التركماني منهم واستحدثوا هذه الدولة التركية كما شرحناه في أخبارها وهلك بعد أيبك ابنه علي المنصور ثم مولاه قطز ثم الظاهر بيبرس البندقداري‏.‏ ثم ظهر أمر الططر واستفحل ملكهم‏.‏وزحف هولاكو بن طولي بن جنكيزخان من خراسان إلى بغداد فملكها وقتل الخليفة المستعصم آخر بني العباس‏.‏ ثم زحف إلى الشام فملك مدنه وحواضره من أيدي بني أيوب إلى أن استوعبها‏.‏ وجاء الخبر بأن بركة صاحب صراي شريكه في نسب جنكزخان زحف إلى خراسان فامتعض لذلك وكر راجعاً وشغل بالفتنة معه إلى أن هلك‏.‏وخرج قطز من مصر عندما شغل هولاكو بفتنة بركة فملك الشام كله أمصاره ومدنه وأصاره للترك موالي بني أيوب‏.‏واستفحلت دولة هؤلاء المماليك واتصلت أيامها واحداً بعد واحداً كما ذكرنا في أخبارهم‏.‏ثم جاء قلاوون عندما ملك بيبرس الظاهر منهم فتظاهر به وأصهر إليه والترف يومئذ لم يأخذ منهم والشدة والشكيمة موجودة فيهم والبأس والرجولة شعار لهم وهلك الظاهر بيبرس وابناه من بعده كما في أخبارهم‏.‏وقام قلاوون بالأمر فاتسع نطاق ملكه وطال ذرع سلطانه وقصرت أيدي الططر عن الشام بمهلك هولاكو وولاية الأصاغر من ولده فعظم ملك قلاوون وحسنت آثار سياسته وأصبح حجة على من بعده ثم ملك بعده ابناه‏:‏ خليل الأشرف ثم محمد الناصر‏.‏ وطالت أيامه وكثرت عصابته من مماليكه حتى كمل منهم عدد لم يقع لغيره‏.‏ورتب للدولة المراتب وقدم منهم في كل رتبة الأمراء وأوسع لهم الإقطاع والولايات حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالترف أحوالهم‏.‏ ورحل أرباب البضائع من العلماء والتجار إلى مصر فأوسعهم حباء وبراً‏.‏ وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والربط والخوانق وأصبحت دولتهم غرة في الزمان وواسطة في الدول‏.‏ثم هلك الناصر بعد أربعين وسبعمائة فطفق أمراء دولته ينصبون بنيه للملك واحداً بعد آخر مستبدين عليهم متنافسين في الملك حتى يغلب واحد منهم الآخر فيقتله ويقتل سلطانه من أولاد الناصر وينصب آخر منهم مكانه إلى أن انساق الأمر لولده حسن الناصر فقتل مستبده شيخون وملك أمره‏.‏وألقى زمام الدولة بيد مملوكه يلبغا فقام بها ونافسه أقرانه وأغروا به سلطانه فأجمع قتله‏.‏ونمي إليه الخبر وهو في علوفة البرسيم عند خيله المرتبطة لذلك فاعتزم على الامتناع واستعد للقاء‏.‏ واستدعاه سلطانه فتثاقل عن القدوم‏.‏واستشاط السلطان وركب في خاصته إليه فركب هو لمصالحته‏.‏وهاجم السلطان ففله ورجع إلى القلعة وهو في اتباعه فلم يلفه بقصره وأغرى به البحث فتقبض عليه واستصفاه وقتله ونصب للملك محمد المنصور بن المظفر حاجي بن الناصر‏.‏وقام بالدولة أحسن قيام وأغرى نفسه بالاستكثار من المماليك وتهذيبهم بالتربية وتوفير النعم عندهم بالاقطاع والولايات حتى كمل منهم عدد لم تعهده الدولة‏.‏ثم خلع المنصور بن المظفر لسنتين ونصب مكانه للملك شعبان الأشرف بن حسين بن الناصر فأقام على التخت وهو في كفالته وهو على أوله في إعزاز الدولة وإظهار الترف والثروة حتى ظهرت مخايل العز والنعم في المساكن والجياد والمماليك والزينة ثم بطروا النعمة وكفروا الحقوق فحنقوا عليه لما كان يتجاوز الحدود بهم في الآداب فهموا بقتله وخلصوا نجياً لذلك في متصيدهم الشتوي وقد برزوا له بخيامهم وسلطانهم على عادتهم‏.‏ولما أحس بذلك ركب ناجياً بنفسه إلى القاهرة فدخلوا على السلطان الأشرف وجاءوا به على إثره وأجازوا البحر فقبضوا عليه عشي يومهم ثم قتلوه في محبسه عشاء‏.‏وانطلقت أيديهم على أهل البلد بمعرات لم يعهدوها من أول دولتهم من النهب والتخطف وطروق المنازل والحمامات للعبث بالحرم وإطلاق أعنة الشهوات والبغي في كل ناحية فمرج أمر الناس ورفع الأمر إلى السلطان وكثر الدعاء واللجأ إلى الله‏.‏ واجتمع أكابر الأمر إلى السلطان وفاوضوه في كف عاديتهم فأمرهم بالركوب ونادى في جنده ورعيته بانطلاق الأيدي عليهم والاحتياط بهم في قبضة القهر فلم يكن إلا كلمح البصر وإذا بهم في قبضة الأسر‏.‏ثم عمرت بهم السجون وصفدوا وطيف بهم على الجمال ينادى بهم إبلاغاً في الشهرة ثم وسط أكثرهم وتتبع بالنفي والحبس بالثغور القصية ثم أطلقوا بعد ذلك‏.‏وكان فيمن أطلق جماعة منهم بحبس الكرك‏:‏ فيهم برقوق الذي ملك أمرهم بعد ذلك وبركة الجوباني وألطنبغا الجوباني وجهركس الخليلي‏.‏وكان طشتمر دوادار يلبغا قد لطف محله عند السلطان الأشرف وولي الدوادارية له وكان يؤمل الاستبداد كما كان أستاذه يلبغا فكان يحتال في ذلك بجمع هؤلاء المماليك اليلبغاوية من حيث سقطوا يريد بذلك اجتماعهم عصبة له على هواه ويغري السلطان بها شفاهاً ورسالة إلى أن اجتمع أكثرهم بباب السلطان الأشرف وجعلهم في خدمة ابنه علي ولي عهده‏.‏ فما كثروا وأخذتهم أريحية العز بعصبيتهم صاروا يشتطون على السلطان في المطالب ويعتزون بعصبية اليلبغاوية‏.‏واعتزم السلطان الأشرف عام سبعة وسبعين على قضاء الفرض فخرج لذلك خروجاً فخماً واستناب ابنه علياً على قلعته وملكه في كفالة قرطاي من أكابر اليلبغاوية وأخرج معه الخليفة والقضاة‏.‏فلما بلغ العقبة اشتط المماليك في طلب جرايتهم من العلوفة والزاد واشتط الذين بمصر كذلك في طلب أرزاقهم من المتولين للجباية‏.‏وصار الذين مع السلطان إلى المكاشفة في ذلك بالأقوال والأفعال وطشتمر الدوادار يغضي عنهم يحسب وقت استبداده قد أزف إلى أن راغمهم السلطان بالزجر فركبوا عليه هنالك وركب من خيالته مع لفيف من خاصته فنضحوه بالنبل ورجع إلى خيامه ثم ركب الهجن مساء وسار فصبح القاهرة وعرس هو ولفيفه بقبة النصر‏.‏وكان قرطاي كافل ابنه علي المنصور حدث بينه وبين ناظر الخاص المقسي مكالمة عند مغيب السلطان أحقدته‏.‏وجاشت بما كان في نفسه فأغرى عليا المنصور بن السلطان بالتوثب على الملك فارتاح لذلك وأجابه وأصبح يوم ثورة المماليك بالعقبة وقد جلس علياً مكفوله بباب الإسطبل وعقد له الراية بالنداء على جلوسه بالتخت وبينما هم في ذلك صبحهم الخبر بوصول السلطان الأشرف إلى قبة النصر ليلتئذ فطاروا إليه زرافات ووحدانا فوجدوا أصحابه نياماً هنالك وقد تسلل من بينهم هو ويلبغا الناصري من أكابر اليلبغاوية فقطعوا رءوسهم جميعاً ورجعوا بها تسيل دماً‏.‏ووجموا لفقدان الأشرف وتابعوا النداء عليه وإذا بامرأة قد دلتهم عليه في مكان عرفته فتسابقوا إليه وجاءوا به فقتلوه لوقته بخلع أكتافه وانعقدت بيعة ابنه المنصور‏.‏وجاء طشتمر الدوادار من الغد بمن بقي بالعقبة من الحرم ومخلف السلطان واعتزم على قتالهم طمعاً في الاستبداد الذي في نفسه فدافعوه وغلبوه وحصل في قبضتهم فخلعوا عليه بنيابة الشام وصرفوه لذلك وأقاموا في سلطانهم‏.‏وكان أينبك أميراً آخر من اليلبغاوية قد ساهم قرطاي في هذا الحادث وأصهر إليه في بعض حرمه فاستنام له قرطاي وطمع هو في الاستيلاء‏.‏وكان قرطاي مواصلاً صبوحه بغبوقه ويستغرق في ذلك فركب في بعض أيامه وأركب معه السلطان علياً واحتاز الأمر من يد قرطاي وصيره إلى صفد واستقل بالدولة ثم انتقض طشتمر بالشام مع سائر أمرائه فخرج أينبك في العساكر وسرح المقدمة مع جماعة من الأمراء وكان منهم برقوق وبركة المستوليان عقب ذلك وخرج هو والسلطان في الساقة فلما انتهوا إلى بلبيس ثار الأمراء الذين في المقدمة عليه ورجع إليه أخوه منهزماً فرجع إلى القلعة‏.‏ثم اختلف عليه الأمراء وطالبوه بالحرب في قبة النصر فسرح العساكر لذلك فلما فصلوا فر هو هارباً وقبض عليه وثقف بالإسكندرية‏.‏واجتمع أمراء اليلبغاوية يقدمهم قطلقتمر العلائي ويلبغا الناصري ودمرداش اليوسفي وبركة وبرقوق فتصدى دمرداش ويلبغا وبركة وبرقوق إلى الاستقلال بالأمر وتغلبوا على سائر الأمراء واعتقلوهم بالإسكندرية‏.‏وفوضوا الأمر إلى يلبغا الناصري وهم يرونه غير خبير فأشاروا باستدعاء طشتمر وبعثوا إليه وانتظروا‏.‏فلما جاءه الخبر بذلك ظنها منية نفسه وسار إلى مصر فدفعوا الأمر إليه وجعلوا له التولية والعزل وأخذ برقوق وبركة يستكثران من المماليك بالاستخدام والجاه وتوفير الاقطاع إكثافاً لعصبيتهما فانصرفت الوجوه عن سواهما وارتاب طشتمر بنفسه وأغراه أصحابه بالتوثب ولما كان الأضحى في سنة تسع وسبعين استعجل أصحابه على غير روية وركبوا وبعثوا إليه فأحجم وقاتلوا فانهزموا‏.‏وتقبض على طشتمر وحبس بالإسكندرية وبعث معه يلبغا الناصري وخلت الدولة للأميرين برقوق وبركة من المنازعين وعمروا المراتب بأصحابهما‏.‏ثم كثر شغب التركمان والعرب بنواحي الشام فدفعوا يلبغا الناصري إلى النيابة بحلب ليستكفوا به في تلك الناحية‏.‏ثم تنافس برقوق وبركة في الاستقلال واضمر كل واحد منهما لصاحبه وخشي معه فقبض برقوق على بطانة بركة من عصابته ليحض بذلك جناحه فارتاع لذلك بركة وخرج بعصابته إلى قبة النصر ليواضع برقوقاً وأصحابه الحرب هنالك ورجا أن تكون الدائرة له‏.‏وأقام برقوق بمكانه من الإسطبل وسرب أصحابه في جموعهم إلى مجاولة أولئك‏.‏وأقاموا كذلك أياماً يغادونهم ويراوحونهم ثلاثاً إلى أن عضت بركة وأصحابه الحرب فانفضوا عنه وجيء ببركة وبعث به إلى الإسكندرية فحبس هنالك إلى أن قتله ابن عرام نائب الإسكندرية‏.‏وارتفع أصحابه إلى برقوق شاكين فثارهم منه بإطلاق أيديهم في النصفة فانتصفوا منه بقتله في ساحة القلعة بعد أن سمر وحمل على جمل عقاباً له ولم يقنعهم ذلك فأطلق أيديهم فيما شاءوا منه ففعلوا مما فعلوا‏.‏وانفرد برقوق - بعد ذلك - بحمل الدولة ينظر في أعطافها بالتهديد والتسديد والمقاربة والحرص على مكافأة الدخل بالخرج‏.‏ونقص ما أفاض فيه بنو قلاوون من الإمعان في الترف والسرف في العوائد والنفقات حتى صار الكيل في الخرج بالمكيال الراجح وعجزت الدولة عن تمشية أحوالها وراقب ذلك كله برقوق ونظر في سد خلل الدولة منه وإصلاحها من مفاسده يعتد ذلك ذريعة للجلوس على التخت وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاوون بما أفسد الترف منهم وأحال الدولة بسببهم إلى أن حصل من ذلك على البغية ورضي به أصحابه وعصابته فجلس على التخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين وتلقب بالظاهر‏.‏ورتب أهل عصابته في مراتب الدولة فقام وقاموا بها أحسن قيام وانقلبت الدولة من آل قلاوون إلى برقوق الظاهر وبنيه‏.‏واستمر الحال على ذلك ونافسه اليلبغاوية - رفقاؤه في ولاء يلبغا - فيما صار إليه من الأمر وخصوصاً يلبغا نائب حلب فاعتزم على الانتقاض‏.‏وشعر به الظاهر فبعث باستدعائه فجاء وحبسه مده ثم رجعه إلى نيابة حلب وقد وغر صدره من هذه المعاملة‏.‏وارتاب به الظاهر فبعث سنة تسعين دواداره للقبض عليه ويستعين في ذلك بالحاجب‏.‏وانتقض واستدعى نائب ملطية وهو منطاش من أمراء اليلبغاوية وكان قد انتقض قبله ودعا نواب الشام إلى المسير إلى مصر إلباً على الظاهر فأجابوه وساروا في جملته وتحت لوائه وبلغ الخبرإلى الظاهر برقوق فأخرج عساكره مع أمراء اليلبغاوية من أصحابه‏:‏ وهم الدوادار الأكبر يونس وجهركس الخليلي أمير الإسطبل والأتابكي ايتمش وأيدكار حاجب الحجاب وأحمد بن يلبغا أستاذهم‏.‏وخرج الناصري من حلب في عسكره واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام ولما تراءى الجمعان بناحية دمشق نزع كثير من عسكر السلطان إليهم وصدقوا الحملة على من بقي فانفضوا‏.‏ونجا أيتمش إلى قلعة دمشق فدخلها وقتل جهركس ويونس ودخل الناصري دمشق ثم أجمع المسير إلى مصر وعميت أنباؤهم حتى أطلوا على مصر‏.‏

وفي خلال ذلك أطلق السلطان الخليفة من محبسه كان بعض الغواة أنمى عنه أنه داخله شيطان من شياطين الجند يعرف بقرط في قتل السلطان يوم ركوبه إلى الميدان قبل ملكه بسنين فلما صح الخبر أمر بقتله وحبس الخليفة سبعاً إلى تلك السنة فأطلقه عند هذا الواقع ولما وصل إلى قيطا اجتمعت العساكر ووقف السلطان أمام القلعة يومه حتى غشيه الليل ثم دخل إلى بيته وخرج متنكراً وتسرب في غيابات المدينة وباكر الناصري وأصحابه القلعة وأمير حاج بن الأشرف فأعادوه إلى التخت ولقبوه المنصور‏.‏وبعثوا عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية وكان فيهم ألطنيغا الجوباني الذي كان أمير مجلس وقبض السلطان الظاهر عليه وحبسه أياماً ثم أطلقه وبعثه نائباً على دمشق ثم ارتفعت عنه الأقوال بأنه يروم الانتقاض وداخل الناصر في نائب حلب في ذلك وأكد ذلك عند السلطان ما كان بينه وبين الناصري من المصافاة والمخالصة فبعث عنه‏.‏ولما جاء حبسه بالإسكندرية فلما ملك الناصري مصر وأجلس أمير حاج بن الأشرف على التخت بعث عنه ليستعين به على أمره وارتابوا لغيبة الظاهر وبالغوا في البحث عنه فاستدعى الجوباني واستنام له واستحلفه على الأمان فحلف له وجاء به إلى القلعة بعد أن ساور صاحبه الناصري في المضي إليه وتأمينه‏.‏وحبسوه في بعض قصور الملك وتشاوروا في أمره فأشار أمراء اليلبغاوية كلهم بقتله وبالغ في ذلك منطاش ووصل نعير أمير بني مهنا بالشام للصحابة بينه وبين الناصري فحضهم على قتله ومنع الجوباني من ذلك وفاء بيمينه فغلت صدورهم منه‏.‏واعتزموا على بعثه إلى الكرك ودافعوا منطاشاً بأنهم يبعثونه إلى الإسكندرية فيعترضه عند البحر بما شاء من رأيه‏.‏ووثق بذلك فقعد له عند المرساة وخالفوا به الطريق إلى الكرك وولوا عليها نائباً وأوصوه به فأخفق مسعى منطاش ودبر في اغتيال الدولة وتمارض في بيته‏.‏وجاءه الجوباني عائذاً فقبض عليه وحبسه بالإسكندرية وركب منتقضاً ووقف عند مدرسة الناصر حسن يحاصر الناصري بالقلعة‏.‏واستحاش هو بأمراء اليلبغاوية فداهنوا في إجابته ووقفوا بالرميلة أمام القلعة‏.‏ولم يزل ذلك بينهم أياماً حتى انفض جمع الناصري وخرج هارباً فاعترضه أصحاب الطريق بفارسكو وردوه فحبسة منطاش بالإسكندرية مع صاحبه واستقل بأمر الملك‏.‏وبعث إلى الكرك بقتل الظاهر فامتنع النائب واعتذر بوقوفه على خط السلطان والخليفة والقضاة‏.‏وبث الظاهر عطاءه في عامة أهل الكرك فانتدبت طائفة منهم لقتل البريدي الذي جاء في ذلك فقتلوه وأخرجوا الظاهر من محبسه فأصحروا‏.‏واستألف أفاريق من العرب واتصل به بعض مماليكه وسار إلى الشام‏.‏واعترضه ابن باكيش نائب غزة فأوقع به الظاهر وسار إلى دمشق وأخرج منطاش العساكر مع سلطانه أمير حاج وسار على التعبئة ليمانع الظاهر عن دمشق‏.‏وسبقه الظاهر فمنعه جنتمر نائب دمشق فواقعه وأقام محاصراً له‏.‏ووصل إليه كمشبغا الحموي نائب حلب وكان أظهر دعوته في عمله وتجهز للقائه بعسكره فلقيه وأزال علله فأقام له أبهة الملك‏.‏وبينا هم في الحصار إذ جاء الخبر بوصول منطاش بسلطانه وعساكره لقتالهم فلقيهم الظاهر بشقحب فلما تراءى الجمعان حمل الظاهر على السلطان أمير حاج وعساكره ففضهم وانهزم كمشبغا إلى حلب‏.‏وسار منطاش في اتباعه فهجم الظاهر على تعبئة أمير حاج ففضها واحتاز السلطان والخليفة والقضاة ووكل بهم‏.‏واختلط الفريقان وصاروا في عمياء مز أمرهم وفر منطاش إلى دمشق‏.‏واضطرب الظاهر أخبيته ونزل على دمشق محاصر لها‏.‏وخرج إليه منطاش من الغد فهزمه وجمع القضاة والخليفة فشهدوا على أمير حاج بالخلع وعلى الخليفة بإعادة الظاهر إلى ملكه‏.‏ورحل إلى مصر فلقيه بالطريق خبر القلعة بمصر وتغلب مماليكه عليها وذلك أن القلعة لما خلت من السلطان ومنطاش والحامية وكان مماليك السلطان محبوسين هنالك في مطبق أعد لهم فتناجوا في التسور منه إلى ظاهره والتوثب على القلعة والملك فخرجوا وهرب دوادار منطاش الذي كان هنالك بمن كان معه من الحاشية‏.‏وملك مماليك الظاهر القلعة ورأسهم مملوكه بطا وساس أمرهم وانتظر خبر سلطانه فلما وصل الخبر بذلك إلى الظاهر أغذ السير إلى مصر‏.‏وتلقاه الناس فرحين مسرورين بعوده وجبره‏.‏ودخل منتصف صفر من سنة إحدى وتسعين وولى بطا دواداراً وبعث عن الأمراء المحبوسين بالإسكندرية وأعتبهم وأعادهم إلى مراتبهم‏.‏وبعث الجوباني إلى دمشق والناصري إلى حلب كما كانا وعادت الدولة إلى ما كانت عليه‏.‏وولى سودون على نيابته وكان ناظراً بالخانقاه التي كنت فيها وكان ينقم علي أحوالاً من معاصاته فيما يريد من الأحكام في القضاء أزمان كنت عليه ومن تصرفات دواداره بالخانقاه وكان يستنيبه عليها فوغر صدره من ذلك وكان الظاهر ينقم علينا معشر الفقهاء فتاوى استدعاها منا منطاش وأكرهنا على كتابها فكتبناها وورينا فيها بما قدرنا عليه‏.‏ولم يقبل السلطان ذلك وعتب عليه وخصوصاً علي‏.‏فصادف سودون منه إجابة في إخراج الخانقاه عني فولى فيها غيري وعزلني عنها‏.‏وكتبت إلى الجوباني بأبيات أعتذر عن ذلك ليطالعه بها فتغافل عنها وأعرض عني مدة ثم عاد إلى ما أعرف من رضاه وإحسانه ونص الأبيات‏:‏ سيدي والظنون فيك جميلة وأياديك بالأماني كفيله لا تحل عن جميل رأيك إني ما لي اليوم غير رأيك حيله واصطنعني كما اصطنعت بإسدا ء يد من شفاعة أو وسيله لا تضعني فلست منك مضيعاً ذمة الحب والأيادي الجميله وأجرني فالخطب عض بناب بيه وأجرى إلى حماي خيوله ولو أني دعا بنصري داع كنت لي خير معشر وفصيله أنه أمري إلى الذي جعل الل ه أمور الدنيا له مكفوله وأراه في ملكه الآية الك برى فولاه ثم كان مديله أشهدته عناية الله في التم حيص أن كان عونه ومنيله ومجير الإسلام من كل خطب كاد زلزال بأسه أن يزيله ومديل العدو بالطعنة النجلا ء تفري ماذيه ونصوله وشكور لأنعم الله يفني في رضاه غدوه وأصيله وتلطف في وصف حالي وشكوى خلتي يا صفيه وخليله قل له والمقال يكرم من مث لك في محفل العلا أن يقوله يا خوند الملوك يا معدل الد هر إذا عدل الزمان فصوله لا تقصر في جبر كسرى فما زل ت أرجيك للأيادي الطويلة أنا جار لكم منعتم حماه ونهجتم إلى المعالي سبيله وغريب أنستموه على الوحش ة والحزن بالرضى والسهوله وجمعتم من شمله فقضى الل ه فراقاً وما قضى مأموله غاله الدهر في البنين وفي الأه ل وما كان ظنه أن يغوله ورمته النوى فقيداً قد اجت احت عليه فروعه وأصوله همة ما عرفتها لسواكم وأنا من خبرت دهري وجيله والعدا نمقوا أحاديث إفك كلها في طرائق معلوله روجوا في شأني غرائب زور نصبوها لأمرهم أحبوله ورموا بالذي أرادوا من الب هتان ظناً بأنها مقبولة زعموا أنني أتيت من الأقوا ل ما لا يظن بي أن أقوله كيف لي أغمط الحقوق وأني شكر نعماكم علي الجزيله كيف لي أنكر الأيادي التي تع رفها الشمس والظلال الظليله إن يكن ذا فقد برئت من الل ه تعالى وخنت جهراً رسوله طوقونا أمر الكتاب فكانت لقداح الظنون فينا مجيله لا ورب الكتاب أنزله الل ه على قلب من وعى تنزيله ما رضينا بذاك فعلاً ولا جئ ناه طوعاً ولا اقتفينا دليله إنما سامنا الكتاب ظلوم لا يرجى دفاعه بالحيله فكتبنا معولين على حل مك تمحو الاصار عنا الثقيله ما أشرنا به لزيد ولا عم رو ولا عينوا لنا تفصيله إنما يذكرون عمن وفيمن مبهمات أحكامها منقوله ويظنون أن ذاك على ما أضمروا من شناعة أو رذيله وهو ظن عن الصواب بعيد وظلام لم يحسنوا تأويله وجناب السلطان نزهه الله ع ن العاب بالهدى والفضيله وأجل الملوك قدراً صفوح يرتجي ذنب دهره ليقيله فاقبلوا العذر إننا اليوم نرجو بحياة السلطان منكم قبوله وأعينوا على الزمان غريباً يشتكي جدب عيشه ومحوله جاركم ضيفكم نزيل حماكم لا يضيع الكريم يوماً نزيله جددوا عنده رسوم رضاكم فرسوم الكرام غير محيله داركوه برحمة فلقد أم ست عقود اصطباره محلوله بل تقلدتها شغوراً بمرسو م شريف وخلعة مسدوله ولقد كنت آملاً لسواها وسواها بوعده أن ينيله وتوثقت للزمان عليها بعقود ما خلتها محلوله أبلغن قصتي فمثلك من يق صد فعل الحسنى بمن ينتمي له واغنموا من مثوبتي ودعائي قربة عند ربكم مقبوله وفي التعريض بسفره إلى الشام‏:‏ واصحب العز ظافراً بالأماني واترك العصبة العدا مفلوله واعتمل في سعادة الملك الظا هر أن تمحو الأذى وتزيله وتعيد الدنيا لأحسن شمل حين تضحي بسعده مشموله واطلب النصر من سعادته يص حبك داباً في الظعن والحيلوله وارتقب ما يحله بالأعادي في جمادى أو زد عليه قليله وخذوه فألاً بحسن قبول صدق الله في الزمان مقوله السعاية في المهاداة والاتحاف بين ملوك المغرب والملك الظاهر كثيراً ما يتعاهد الملوك المتجاورون بعضهم بعضاً بالإتحاف بطرف أوطانهم للمواصلة والإعانة متى دعا إليها داع‏.‏وكان صلاح الدين بن أيوب هادى يعقوب المنصور ملك المغرب من بني عبد المؤمن واستجاش به بأسطوله في قطع مدد الفرنج عن سواحل الشام حين كان معنياً بإرجاعهم عنها وبعث في ذلك رسوله عبد الكريم بن منقذ من أمراء شيزر فأكرم المنصور رسوله وقعد عن إجابته في الأسطول لما كان في الكتاب إليه من العدول عن تخطيطه بأمير المؤمنين فوجدها غصة في صدره منعته من إجابته إلى سؤاله وكان المانع لصلاح الدين من ذلك كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني بما كان يشاوره في أموره وكان مقيماً لدعوة الخليفة العباسي بمصر فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد لاثنين في الملة كما هو المشهور وإن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك لما يرون أن الخلافة ليست لقباً فقط وإنما هي لصاحب العصبية القائم عليها بالشدة والحماية والخلاف في ذلك معروف بين أهل الحق‏.‏فلما انقرضت دولة الموحدين وجاءت دولة بني مرين من بعدهم وصار كبراؤهم ورؤساؤهم يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقية فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان إليهم وتسهيل طريقهم فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البر والمواصلة بالإتحاف والاستطراف والمكافأة في ذلك بالهمم الملوكية فسنت لذلك طرائق وأخبار مشهورة من حقها أن تذكر وكان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ثالث ملوك بني مرين أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة وهو يومئذ الناصر بن محمد بن قلاوون هدية ضخمة أصحبها كريمة من كرائم داره احتفل فيها ما شاء من أنواع الطرف وأصناف الذخائر وخصوصاً الخيل والبغال‏.‏أخبرني الفقيه أبو إسحق الحسناوي كاتب الموحدين بتونس أنه عاين تلك الهدية عند مرورها بتونس قال‏:‏ وعددت من صنف البغال الفارهة فيها أربعمائة وسكت عما سوى ذلك‏.‏وكان مع هذه الهدية من فقهاء المغرب أبو الحسن التنسي كبير أهل الفتيا بتلمسان‏.‏ثم كافأ الناصر عن هذه الهدية بأعلى منها وأحفل مع أميرين من أمراء دولته أدركا يوسف بن يعقوب وهو يحاصر تلمسان فبعثهما إلى مراكش للنزاهة في محاسنها وأدركه الموت في مغيبهما ورجعا من مراكش فجهزهما حافده أبو ثابت المالك بعده وشيعهما إلى مصر فاعترضتهما قبائل حصين ونهبوهما ودخلا بجاية ثم مضيا إلى تونس ووصلا من هنالك إلى مصر‏.‏ولما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان اقترحت عليه جارية أبيه أبي سعيد وكانت لها عليه تربية فأرادت الحج في أيامه وبعنايته فأذن لها في ذلك وبعث في خدمتها وليه عريف بن يحيى من أمراء سويد وجماعة من أمرائه وبطانته واستصحبوا هدية منه للملك الناصر احتفل فيها ما شاء‏.‏وانتقى من الخيل العتاق والمطايا الفره وقماش الحرير والكتان والصوف ومدبوغ الجلود الناعمة والأواني المتخذة من النحاس والفخار المخصوص كل مصر من المغرب بأصناف من صنائعها متشابهة الأشكال والأنواع حتى لقد زعموا أنه كان فيها مكيلة من اللآلئ والفصوص وكان ذلك وقر خمس مائة بعير وكانت عتاق الخيل فيها خمس مائة فرس بالسروج الذهبية المرصعة بالجواهر واللجم المذهبة والسيوف المحلاة بالذهب واللآلئ كانت قيمة المركب الأول منها عشرة آلاف دينار وتدرجت على الولاء إلى آخر الخمس مائة فكانت قيمته مائة دينار‏.‏تحدث الناس بهذه الهدية دهراً وعرضت بين يدي الملك الناصر فأشار إلى خاسكيته بانتهابها فنهبت بين يديه وبولغ في كرامة أولئك الضيوف في إنزالهم وقراهم وإزوادهم إلى الحجاز وإلى بلادهم وبقي شأن الهدية حديثاً يتجاراه الناس في مجالسهم وأسمارهم وكان ذلك عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة‏.‏ولما فصل أرسال ملك المغرب وقد قضوا فرضهم بعث الملك الناصر معهم هدية كفاء هديتهم وكانت أصنافها حمل القماش من ثياب الحرير والقماش المصنوعة بالإسكندرية تحمل كل عام إلى دار السلطان قيمة ذلك الحمل خمسون ألف دينار وخيمة من خيام السلطان المصنوعة بالشام على مثال القصور تشتمل على بيوت للمراقد وأواوين للجلوس والطبخ وأبراج للإشراف على الطرقات وأبراج أحدها لجلوس السلطان للعرض وفيها تمثال مسجد بمحرابه وعمده ومأذنته حوائطها كلها من خرق الكتان الموصولة بحبك الخياطة مفصلة على الأشكال التي يقترحها المتخذون لها‏.‏وكان فيها خيمة أخرى مستديرة الشكل عالية السمك مخروطة الرأس رحبة الفناء تظل خمس مائة فارس أو أكثر وعشرة من عتاق الخيل بالمراكب الذهبية الصقيلة ولجمها كذلك ومرت هذه الهدية بتونس ومعها الخدام القائمون بنصب الأبنية فعرضوها على السلطان بتونس‏.‏وعاينت يومئذ أصناف تلك الهدية وتوجهوا بها إلى سلطانهم وبقي التعجب منها دهراً على الألسنة‏.‏وكان ملوك تونس من الموحدين يتعاهدون ملوك مصر بالهدية في الأوقات‏.‏ولما وصلت إلى مصر واتصلت بالملك الظاهر وغمرني بنعمه وكرامته كاتبت السلطان بتونس يومئذ وأخبرته بما عند الملك الظاهر من التشوف إلى جياد الخيل وخصوصاً من المغرب لما فيها من تحمل الشدة والصبر على المتاعب وكان يقول مثل ذلك وأن خيل مصر قصرت بها الراحة والتنعم عن الصبر على التعب فحضضت السلطان بتونس على إتحاف الملك الظاهر بما ينتقيه من الجياد الرائعة فبعث له خمسة انتقاها من مراكبه وحملها في البحر في السفين الواصل بأهلي وولدي فغرقت بمرسى الإسكندرية ونفقت تلك الجياد مع ما ضاع في ثم وصل إلينا عام ثلاثة وتسعين شيخ الأعراب‏:‏ المعقل بالمغرب يوسف بن علي بن غانم كبير أولاد حسين ناجياً من سخط السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم من ملوك بني مرين بفاس يروم قضاء فرضه ويتوسل بذلك لرضى سلطانه فوجد السلطان غائباً بالشام في فتنة منطاش فعرضته لصاحب المحمل‏.‏فلما عاد من قضاء فرضه وكان السلطان قد عاد من الشام فوصلته به وحضر بين يديه وشكا بثه فكتب الظاهر فيه شفاعة لسلطان وطنه بالمغرب وحمله مع ذلك هدية إليه من قماش وطيب وقسي وأوصاه بانتقاء الخيل له من قطر المغرب وانصرف فقبل سلطانه فيه شفاعة الظاهر وأعاده إلى منزلته‏.‏وانتقى الخيول الرائعة لمهاداة الملك الظاهرة وأحسن في انتقاء أصناف الهدية فعاجلته المنية دون ذلك وولي ابنه أبو فارس وبقي أياماً ثم هلك وولى أخوه أبو عامر فاستكمل الهدية وبعثها صحبة يوسف بن علي الوارد الأول‏.‏وكان السلطان الملك الظاهر لما أبطأ عليه وصول الخيل من المغرب أراد أن يبعث من أمرائه من ينتقي له ما يشاء بالشراء فعين لذلك مملوكاً من مماليكه منسوباً إلى تربية الخليلي اسمه قطلوبغا وبعث عني فحضرت بين يديه وشاورني في ذلك فوافقته وسألني كيف يكون طريقه فأشرت بالكتاب في ذلك إلى سلطان تونس من الموحدين وسلطان تلمسان من بني عبد الواد وسلطان فاس والمغرب من بني مرين وحمله لكل واحد منهم هدية خفيفة من القماش والطيب والقسي وانصرف عام تسعة وتسعين إلى المغرب وشيعه كل واحد من ملوكه إلى مأمنه‏.‏وبالغ في إكرامه بما يتعين‏.‏ووصل إلى فاس فوجد الهدية قد استكملت ويوسف بن علي على المسير بها عن سلطانه أبي عامر من ولد السلطان أبي العباس المخاطب أولاً‏.‏وأظلهم عيد الأضحى بفاس وخرجوا متوجهين إلى مصر وقد أفاض السلطان من إحسانه وعطائه على الرسول قطلوبغا ومن في جملته بما أقر عيونهم وأطلق بالشكر ألسنتهم وملأ بالثناء ضمائرهم ومروا بتلمسان وبها يومئذ أبو زيان ابن السلطان أبي حمو من آل يغمراسن بن زيان فبعث معهم هدية أخرى من الجياد بمراكبها وكان يحوك الشعر فامتدح الملك الظاهر بقصيدة بعثها مع هديته ونصها من أولها إلى آخرها‏:‏ لمن الركائب سيرهن ذميل والصبر - إلا بعدهن - جميل يا أيها الحادي رويدك إنها ظعن يميل القلب حيث تميل رفقاً بمن حملته فوق ظهورها فالحسن فوق ظهورها محمول لله آيه أنجم‏:‏ شفافة تنجاب عنها للظلام سدول شهب بآفاق الصدور طلوعها ولها بأستار الجدول أفول فكأنها قمر على غصن على متني كثيب والكثيب مهيل ثارت مطايا فثار بي الهوى واعتاد قلبي زفرة وغليل أومت لتوديعي فغالب عبرتي نظر تخالسه العيون كليل دمع أغيض منه خوف رقيبها طوراً ويغلبني الأسى فيسيل ويح المحب وشت به عبراته فكأنها قال عليه وقيل صان الهوى وجفونه يوم النوى لمصون جوهر دمعهن تذيل وتهابه أشد الشرى في خيسها ويروعه ظبي الحمى المكحول تأبى النفوس الضيم إلا في الهوى فالحر عبد والعزيز ذليل يا بانة الوادي ويا أهل الحمى هل ساعة تصغين لي فأقول ما لي إذا هب النسيم من الحمى أرتاح شوقاً للحمى وأميل خلوا الصبا يخلص إلي نسيمها إن الصبا لصبابتي تعليل ما لي أحلأ عن ورود محله وأذاد عنه وورده منهول يا خير من أهدى الهدى وأجل من أثنى عليه الوحي والتنزيل وحي من الرحمن يلقيه على قلب النبي محمد جبريل مدحتك آيات الكتاب وبشرت بقدومك التوراة والإنجيل صلة الصلاة عليك تحلو في فمي مهما تكرر ذكرك المعسول فوربعك المأهول إن بأضلعي قلباً بحبك ربعه مأهول هل من سبيل للسرى حتى أرى خير الورى فهو المنى والسول حتام تمطلني الليالي وعدها إن الزمان بوعده لبخيل ما عاقني إلا عظيم جرائمي إن الجرائم حملهن ثقيل أنا مغرم فتعطفوا أنا فذنب فتجماوزوا أنا عاثر فأقيلوا وأنا البعيد فقربوا والمستج ير فأمنوا والمرتجى فأنيلوا يا سائقاً نحو الحجاز حمولة والقلب بين حموله محمول لمحمد بلغ سلام سميه فذمامه بمحمد موصول سعد المليك أبي سعيد إنه سيف على أعدائه مسلول ملك بجح المغرب الأقصى به فلهم به نحو الرسول وصول ملك به نام الأنام وأمنت سبل المخاف فلا يخاف سبيل فالملك ضخم والجناب مؤمل والفضل جم والعطاء جزيل والصنع أجمل والفخار مؤثل والمجد أكمل والوفاء أصيل يا مالك البحرين بلغت المنى قد عاد مصر على العراق يصول يا خادم الحرمين حق لك الهنا فعليك من روح الإله قبول يا متحفي ومفاتحي برسالة سلسالة يزهى بها الترسيل أهديتها حسناء بكراً ما لها غيري وإن كثر الرجال كفيل ضاء المداد من الوداد بصحفها حتى اضمحل عبوسه المجبول جمعت وحاملها بحضرتنا كما جمعت بثينة في الهوى وجميل وتأكدت بهدية ودية هي للإخاء المرتضى تكميل وبدائع الحلل اليمانية التي روى معاطفها بمصر النيل فأجلت فيها ناظري فرأيتها تحفاً يجول الحسن حيث تجول جلت محاسنها فأهوى نحوها بفم القبول اللثم والتقبيل يا مسعدي وأخي العزيز ومنجدي ومن القلوب إلى هواه تميل إن كان رسم الود منك مذيلاً بالبر وهو بذيله موصول فنظيره عندي وليس يضيره بمعارض وهم ولا تخييل ود لزيد وثابت شهدا به و لخالد بخلوده تذييل وإليكها تنبيك صدق مودتي صح الدليل ووافق المدلول فإذا بذاك المجلس السامي سمت فلديك إقبال لها وقبول دام الوداد على البعاد موصلاً بين القلوب وحبله موصول وبقيت في نعم لديك مزيدها وعلمك يضفو ظلها المسدول ثم مروا بعدها بتونس فبعث سلطان تونس أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العباس من آخر السنة وعرضت بين يحيى السلطان وانتهب الخاسكية ما كان فيها من الأقمشة والسيوف والبسط ومراكب الخيل وحمل كثيراً منهم على كثير من تلك الجياد وارتبط الباقيات‏.‏وكانت هدية صاحب المغرب تشتمل على خمسة وثلاثين من عتاق الخيل بالسروج واللجم الذهبية والسيوف المحلاة وخمسة وثلاثين حملاً من أقمشة الحرير والكتان والصوف والجلد منتقاة من أحسن هذه الأصناف‏.‏وهدية صاحب تلمسان تشتمل على ثلاثين من الجياد بمراكبها المموهة وأحمالاً من الأقمشة‏.‏وهدية صاحب تونس تشتمل على ثلاثين من الجياد مغشاة ببراقع الثياب من غير مراكب وكلها أنيق في صنعه مستطرف في نوعه وجلس السلطان يوم عرضها جلوساً فخماً في إيوانه وحضر الرسل وأدوا ما يجب عن ملوكهم‏.‏وعاملهم السلطان بالبر والقبول وانصرفوا إلى منازلهم للجرايات الواسعة والأحوال الضخمة‏.‏ثم حضر وقت خروج الحاج فاستأذنوا في الحج مع محمل السلطان فأذن لهم وأرغد أزودتهم‏.‏وقضوا حجهم ورجعوا إلى حضرة السلطان ومعهود مبرته‏.‏ثم انصرفوا إلى مواطنهم وشيعهم من بر السلطان وإحسانه ما ملأ حقائبهم وأسنى ذخيرتهم وحصل لي أنا من بين ذلك في الفخر ذكر جميل بما تناولت بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الباقية على الأبد فحمدت الله على ذلك‏.‏ما زلت منذ العزل عن القضاء الأول سنة سبع وثمانين مكباً على الاشتغال بالعلم تأليفاً وتدريساً والسلطان يولي في الوظيفة من يراه أهلاً متى دعاه إلى ذلك داع من موت القائم بالوظيفة أو عزله وكان يراني الأولى بذلك لولا وجود الذين شغبوا من قبل في شأني من أمراء دولته وكبار حاشيته حتى انقرضوا‏.‏واتفقت وفاة قاضي المالكية إذ ذاك ناصر الدين بن التنسي وكنت مقيماً بالفيوم لضم زرعي هنالك فبعث عني وقلدني وظيفة القضاء في منتصف رمضان من سنة إحدى وثمانمائة فجريت على السنن المعروف مني من القيام بما يجب للوظيفة شرعاً وعادة وكان رحمه الله يرضى بما يسمع عني في ذلك‏.‏ثم أدركته الوفاة في منتصف شوال بعدها وأحضر الخليفة والقضاة والأمراء وعهد إلى كبير أبنائه فرج ولإخوته من بعده واحداً واحداً وأشهدهم على وصيته بما أراد‏.‏وجعل القائم بأمر ابنه في سلطانه إلى أتابكه أيتمش وقضى رحمة الله عليه وترتبت الأمور من بعده كما عهد لهم وكان النائب بالشام يومئذ أمير من خاسكية السلطان يعرف بتنم وسمع بالواقعات بعد السلطان فغص أن لم يكن هو كافل ابن الظاهر بعده ويكون زمام الدولة بيده‏.‏وطفق سماسرة الفتن يغرونه بذلك وبينما هم في ذلك إذ وقعت فتنة الأتابك أيتمش وذلك أنه كان للأتابك دوادار غر يتطاول إلى الرئاسة ويترفع على أكابر الدولة بحظه من أستاذه وما له من الكفالة على السلطان فنقموا حالهم مع هذا الدوادار وما يسومهم به من الترفع عليهم والتعرض لإهمال نصائحهم فأغروا السلطان بالخروج عن ربقه الحجر وأطاعهم في ذلك وأحضر القضاة بمجلسه للدعوى على الأتابك باستغنائه عن الكافل بما علم من قيامه بأمره وحسن تصرفاته‏.‏وشهد بذلك في المجلس أمراء أبيه كافة وأهل المراتب والوظائف منهم شهادة قبلها القضاة‏.‏وأعذروا إلى الأتابك فيهم فلم يدفع في شيء من شهادتهم ونفذ الحكم يومئذ برفع الحجر عن السلطان في تصرفاته وسياسة ملكه وانفض الجمع ونزل الأتابك من الإسطبل إلى بيت سكناه‏.‏ثم عاود الكثير من الأمراء نظرهم فيما أتوه من ذلك فلم يروه صواباً وحملوا الأتابك على نقضه والقيام بما جعل له السلطان من كفالة ابنه في سلطانه‏.‏وركب وركبوا معه في آخر شهر المولد النبوي وقاتلهم أولياء السلطان فرج عشي يومهم وليلتها فهزموهم وساروا إلى الشام مستصرخين بالنائب تنم وقد وقر في نفسه ما وقر من قبل فبر وفادتهم وأجاب صريخهم‏.‏واعتزموا على المضي إلى مصر‏.‏وكان السلطان لما انفضت جموع الأتابك وسار إلى الشام اعتمله في الحركة والسفر لخضد شوكتهم وتفريق جماعتهم وخرج في جمادى حتى انتهى إلى غزة فجاءه الخبر بأن نائب الشام تنم والأتابك والأمراء الذين معه خرجوا من الشام زاحفين للقاء السلطان وقد احتشدوا وأوعبوا وانتهوا قريباً من الرملة فراسلهم السلطان مع قاضي القضاة الشافعي صدر الدين المناوي وناصر الدين الرماخ أحد المعلمين لثقافة الرماح يعذر إليهم ويحملهم على اجتماع الكلمة وترك الفتنة وإجابتهم إلى ما يطلبون من مصالحهم فاشتطوا في المطالب وصمموا على ما هم فيه‏.‏ووصل الرسولان بخبرهم فركب السلطان من الغد وعبى عساكره وصمم لمعاجلتهم فلقيهم أثناء طريقه وهاجمهم فهاجموه ثم ولوا الأدبار منهزمين‏.‏وصرع الكثير من أعيانهم وأمرائهم في صدر موكبه فما غشيهم الليل إلا وهم مصفدون في الحديد يقدمهم الأمير تنم نائب الشام وأكابرهم كلهم‏.‏ونجا الأتابك أيتمش إلى القلعة بدمشق فآوى إليها واعتقله نائب القلعة‏.‏وسار السلطان إلى دمشق فدخلها على التعبئة في يوم أغر وأقام بها أياماً وقتل هؤلاء الأمراء المعتقلين وكبيرهم الأتابك ذبحاً وقتل تنم من بينهم خنقاً ثم ارتحل راجعاً إلى مصر‏.‏وكنت استأذنت في التقدم إلى مصر بين يدي السلطان لزيارة بيت المقدس فأذن لي في ذلك‏.‏ووصلت إلى القدس ودخلت المسجد وتبركت بزيارته والصلاة فيه وتعففت عن الدخول إلى القمامة لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن إذ هو بناء أمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم فنكرته نفسي ونكرت الدخول إليه‏.‏وقضيت من سنن الزيارة ونافلتها ما يجب وانصرفت إلى مدفن الخليل عليه السلام‏.‏ومررت في طريقي إليه ببيت لحم وهو بناء عظيم على موضع ميلاد المسيح شيدت القياصرة عليه بناء بسماطين من العمد الصخور منجدة مصطفة مرقوماً على رؤوسها صور ملوك القياصرة وتواريخ دولهم ميسرة لمن يبتغي تحقيق نقلها بالتراجمة العارفين لأوضاعها ولقد يشهد هذا المصنع بعظم ملك القياصرة وضخامة دولتهم‏.‏ثم ارتحلت من مدفن الخليل إلى غزة وارتحلت منها فوافيت السلطان بظاهر مصر ودخلت في ركابه أواخر شهر رمضان سنة اثنين وثمانمائة‏.‏وكان بمصر فقيه من المالكية يعرف بنور الدين بن الخلال ينوب أكثر أوقاته عن قضاة القضاة المالكية فحرضه بعض أصحابه على السعي في المنصب وبذل ما تيسر من موجوده لبعض بطانة السلطان الساعين له في ذلك فتمت سعايته في ذلك ولبس منتصف المحرم سنة ثلاث ورجعت أنا للاشتغال بما كنت مشتغلاً به من تدريس العلم وتأليفه إلى أن كان السفر لمدافعة تمر عن الشام‏.‏